القسم الثالث – الباب الأول
الفصل الخامس تحديد خطوط الفصل بين الدولة والسلطة والنظام
مدخل تأسيسي:
من أكبر الكوارث المفاهيمية التي عصفت بسوريا ــ وتكررت في كثير من الدول العربية ــ هي الخلط الكامل بين ثلاثة مفاهيم يفترض بها أن تكون متميزة وظيفيًا وشرعيًا:
- الدولة: الكيان الجامع، المستمر، الذي يمثّل الإرادة السيادية للشعب عبر المؤسسات.
- السلطة: الإدارة المؤقتة لهذه الدولة، والتي تتبدل وفق التمثيل والشرعية الشعبية.
- النظام: النموذج السياسي أو الأيديولوجي أو الشخصي الذي تتخذه السلطة خلال فترة حكمها.
هذا الخلط لم يكن بريئًا، بل كان مقصودًا لخلق وهمٍ خطير:
من يعارض النظام، كأنه يعادي الدولة، ومن يرفض السلطة، يُصوَّر كعدو للوطن.
أولًا: الدولة كإطار سيادي أعلى
الدولة هي البنية التي يجب أن تبقى، حين تسقط السلطات، وتتنازع الأنظمة، وتختلف السياسات.
هي التعبير الأرقى عن العقد الاجتماعي، وعن السيادة الشعبية، وعن الاستمرارية القانونية والحقوقية.
ولذلك، فإن الدولة لا يجب أن تُختزل في السلطة، ولا أن تُورَّث كما النظام، ولا أن تُخطف لحماية الزعيم أو الحزب.
الدولة لا يملكها أحد، ولا تمثل حزبًا، ولا تسقط بذهاب حاكم.
هي ملك مشترك للشعب كله، ويجب أن تُبنى بما يحول دون مصادرتها مجددًا.
ثانيًا: السلطة كأداة تنفيذية مؤقتة
السلطة في الدولة الحديثة هي إدارة مرحلية للقرار العمومي، وليست مصدرًا له.
وظيفتها أن تُنفّذ القوانين، وتُطبّق السياسات العامة، وتُدير شؤون الدولة باسم الشعب، وبتفويضه، وضمن حدود صلاحياتها.
لكن ما حدث في سوريا هو أن السلطة تحوّلت إلى مالك دائم للمؤسسات، واعتبرت نفسها مرادفًا للدولة، واختزلت الوطن في شخص الرئيس.
ولهذا، فإن استعادة المعنى السليم للسلطة يتطلب:
- تقييدها بالدستور والقانون.
- فصلها عن الأجهزة السيادية المستقلة.
- تجديد شرعيتها بشكل دوري عبر الانتخابات.
- مساءلتها دون قداسة أو حصانة.
ثالثًا: النظام السياسي كنموذج قابل للتغيير
النظام هو الشكل السياسي الذي تختاره الدولة – أو تفرضه السلطة – لإدارة شؤونها.
قد يكون رئاسيًا أو برلمانيًا، علمانيًا أو دينيًا، اشتراكيًا أو ليبراليًا… لكنه في جميع الأحوال ليس مقدسًا.
النظام لا يُعرّف الدولة، بل الدولة تختار نظامها.
وفي سوريا، تحوّل “النظام” إلى كيان فوق الدولة، فوق السلطة، فوق الشعب، وفوق الدستور.
بل إنه أُعيد إنتاجه مرارًا عبر تغيير الدستور نفسه، لا تغييره هو.
ولهذا، فإن المشروع النهضوي يضع قاعدة واضحة:
النظام السياسي يجب أن يُشتق من الإرادة الشعبية، لا من إرادة المنتصر، ولا من بنية القوة، ولا من شرعية السلاح.
رابعًا: النتائج الكارثية للخلط بين المفاهيم
حين اختُزلت الدولة في النظام، تحوّلت أجهزة الأمن إلى أدوات حماية للحكم لا للمجتمع.
وحين ارتبطت الوطنية باسم الحاكم، صار النقد خيانة، والمساءلة تهديدًا، والمواطنة مرهونة بالولاء.
وحين لم يتم الفصل بين السلطة والدولة، أصبحت الانتخابات أداة شرعنة، لا أداة تغيير.
وأصبح إسقاط السلطة يعني عندهم “تدمير الدولة”، ورفض النظام يعني “الارتماء في الفوضى”.
وهذا الخلط أنتج بيئة خانقة، خانت فكرة الدولة، وقتلت السياسة، واستدعت الخراب.
خامسًا: ترسيم الحدود – نحو دولة تفصل بين الهياكل والوظائف
المشروع النهضوي يجب أن يُعيد ترسيم الحدود الحادة بين هذه المفاهيم، وفق المبادئ التالية:
- الدولة يجب أن تُحمى بالدستور، لا تُختزل في رئيس.
- السلطة يجب أن تُحاسَب لا أن تُؤلَّه.
- النظام السياسي يجب أن يكون متغيرًا وفق الإرادة العامة، لا ثابتًا فوقها.
- كل مؤسسة يجب أن تُعرّف بوظيفتها، لا بمن يشغلها.
- الوطن لا يُختزل في أحد، ولا يُدافع عنه بالقمع، بل بالتعاقد والعدالة.