web analytics
القسم التاسع – الباب الثاني

الفصل الخامس المصالحة الوطنية كخيار سياسي سيادي

تفعيل نتائج العدالة الانتقالية

مقدمة تأسيسية: من شعار العفو إلى عقد الاعتراف

لطالما رُوّج في أنظمة الاستبداد لشعارات “الوحدة الوطنية”، و”النسيج السوري الواحد”، و”عفى الله عمّا مضى”.
لكن تحت هذه الشعارات، كانت هناك جرائم بلا اعتراف، ومظالم بلا إنصاف، وآلام تُطالب بالنسيان دون أن تُمنح الكرامة.
وكانت السلطة تستخدم المصالحة كشكل من أشكال الإذلال، لا التسامح. وكغطاء لإعادة إنتاج الهيمنة، لا للتأسيس لعدالة مجتمعية.

في مشروع النهضة، المصالحة ليست أداة لإغلاق الملف، بل هي مفتاحٌ لفتح المستقبل.

هي مسار سياسي، ووجداني، ومؤسساتي، يُعيد بناء الثقة، ويُعترف فيه بالضحايا، وتُفكّك فيه سرديات الانتقام، ويُبنى على أساسه مفهوم جديد للمواطنة المتساوية.

وليست المصالحة فعلًا اختياريًا يُؤجل لما بعد “الاستقرار”، بل شرط أساسي لبناء هذا الاستقرار نفسه.

فلا عقد اجتماعي دون تصفية مظالمه، ولا دولة دون الاعتراف بمن دمّرتها الدولة السابقة، ولا سيادة دون أن تُحمى كرامة كل السوريين، لا طائفة دون أخرى، ولا معسكر دون آخر.

أولًا: لماذا فشلت “المصالحات” السابقة؟

  1. لأنها كانت من طرف واحد

المصالحات التي فرضها النظام في السنوات الماضية لم تكن مصالحة، بل استسلامًا قسريًا يُفرض على المهزوم دون أي اعتراف بحقه في الألم أو العدالة.

لم تكن بين مواطنين، بل بين ضحية وجلاّد، بين سُلطة تملك القهر، ومجتمع يطلب النجاة.

  1. لأنها تجاهلت الحقيقة

لم يكن هناك اعتراف بجرائم السجون، ولا بتدمير المدن، ولا بالتمييز الطائفي، ولا بانتهاكات الميليشيات.
بل كانت “المصالحة” مشروطة بالصمت، والنسيان، والخضوع.

  1. لأنها لم تُبنَ على العدالة

لم تكن هناك مساءلة، ولا جبر ضرر، ولا محاسبة رمزية أو قانونية.
كان المطلوب من الضحية أن يعتذر لأنه بقي حيًّا، لا أن تُردّ له كرامته.

ثانيًا: نحو مصالحة وطنية بوصفها فعلًا سياديًا جامعًا

  1. الاعتراف لا النكران

لا يمكن لأي مصالحة أن تبدأ دون اعتراف رسمي وشعبي بالانتهاكات التي حدثت، وبالضحايا الذين سُحقوا، وبالتمييز الذي بُني عليه النظام القديم.

وهذا الاعتراف لا يُضعف الدولة، بل يؤسسها من جديد على أرضية الصدق والمكاشفة.

  1. الضحايا في قلب العملية

الضحايا ليسوا “مشكلة يجب تجاوزها”، بل أساس أي عقد وطني جديد.
لا تُبنى الدولة بطمسهم، بل بتكريمهم، وضمان عدم تكرار ما جرى معهم، وإشراكهم في صياغة السياسات القادمة.

  1. السيادة كضمانة لا كتبرئة

ليست المصالحة وسيلة لإغلاق الملفات، بل لفتحها ضمن سيادة القانون، لا الانتقام ولا التسييس.

فالمصالحة السيادية تعني أن الدولة لا تحتكر الرواية، بل تفتح الساحة لتعدد الروايات التي تشكّل الذاكرة الوطنية الجامعة.

ثالثًا: السياسات التنفيذية للمصالحة السيادية

  1. تشكيل هيئة وطنية عليا للمصالحة والعدالة الانتقالية

مستقلة عن السلطة التنفيذية.

تضم ممثلين عن الضحايا، والمجتمع المدني، والقانونيين، والمفكرين.

مخوّلة بجمع الشهادات، وإصدار تقارير دورية، ووضع آليات جبر الضرر.

  1. إطلاق برنامج وطني للعدالة الانتقالية

يتضمن المحاسبة (رمزية ومدنية وجنائية في الجرائم الكبرى).

يشمل آليات للتعويض وجبر الضرر النفسي والاجتماعي والاقتصادي.

يعتمد مبدأ “لا عقاب جماعي ولا إفلات من العقاب”.

  1. فتح ملف المعتقلين والمفقودين

الإفراج الكامل عن جميع المعتقلين السياسيين.

تشكيل لجان مستقلة للبحث في مصير المفقودين.

اعتبار ملف الاعتقال غير قابل للتسييس أو التأجيل.

  1. الاعتذار الرسمي من الدولة للضحايا

بيان تأسيسي تعتذر فيه الدولة الجديدة عن جرائم النظام السابق.

إحياء رمزي للضحايا عبر النصب التذكارية والمناهج التربوية.

  1. تمكين المجتمعات المحلية من المبادرات التصالحية

دعم لجان الصلح المجتمعي بشرط استقلالها.

برامج تدريبية على الحوار، والحقيقة، والمشاركة.

إدماج أدوات العدالة التصالحية في عمل البلديات والمجالس المحلية.

خاتمة

المصالحة، في مشروع النهضة، ليست وقفًا لإطلاق النار، بل انطلاق جديد لمشروع وطني جامع.

هي لحظة نختبر فيها صدقنا، لا مع خصومنا، بل مع ذواتنا وتاريخنا، ومع قدرة هذه الدولة الجديدة على احتواء كل أبنائها، حتى أولئك الذين وقفوا على النقيض في لحظة من اللحظات.

فلا سيادة من دون مصالحة، ولا مصالحة دون عدالة، ولا عدالة دون شجاعة الاعتراف، ولا اعتراف دون ضحايا ينهضون من تحت الركام، ويقولون: نحن لسنا عبئًا على الدولة الجديدة، بل روحها ومبرر وجودها.