القسم الأول
الفصل الخامس الطائفية السياسية
بين الموروث والمصطنع قراءة معرفية نقدية لجذر المأساة الصامتة
مدخل تحليلي:
الطائفية ليست قدرًا سوريًا،
وليست جوهرًا أصيلًا في تكوين المجتمع،
بل هي – في جوهرها – إنتاجٌ تاريخي–سياسي معقّد،
ظهر في لحظات الضعف، وتم توظيفه في لحظات الانقسام،
وتحوّل من انتماء ثقافي مشروع إلى أداة هيمنة، وتبرير للامتياز، ومحور لإدارة الولاء.
وهي حين تُستخدم كآلية تنظيم للسلطة، تتحول من رابطة اجتماعية إلى قنبلة مؤجّلة في جسد الوطن.
وفي سوريا، لم تكن الطائفية ظاهرة اجتماعية طاغية،
بل بُنيت سياسيًا، وهُندِست أمنيًا، وتغذت من تصدّعات لم تُعالَج، ومخاوف لم تُفكَّك، وتاريخ لم يُقرأ بإنصاف.
هذا الفصل لا يبرّئ أحدًا، ولا يدين طائفة،
بل يحاول أن يُحرر العقل السوري من المعادلة السامة التي تربط الطائفة بالسلطة، والانتماء بالخيانة، والهوية بالخوف.
ويقدّم مدخلًا تأسيسيًا لفهم الطائفية لا كحقيقة، بل كأداة؛ لا كهوية، بل كبنية استعمال.
أولًا: تعريف الطائفة والطائفية – من الهوية إلى الأداة
- الطائفة:
هي انتماء ديني–مذهبي–ثقافي، نشأ تاريخيًا ضمن تفاعلات روحية وفكرية واجتماعية،
وهي، في الأصل، منظومة قيمية داخل المجتمع، لا خارجه،
ولا تحمل في جوهرها أي ميل ذاتي للعنف أو الإقصاء.
- الطائفية:
هي لحظة تحويل الطائفة إلى وحدة سياسية،
واستخدامها كأداة لتنظيم السلطة أو توزيع الموارد أو ضبط المجتمع.
وهي ليست تعبيرًا عن الهوية، بل عن أزمة في إدارة التنوع، وتحللٍ في العقد الوطني،
وغالبًا ما تنتجها النخب السياسية، لا المجتمعات نفسها.
ثانيًا: الطائفية السياسية في التاريخ السوري – جدل الموروث والمُنتَج
عاش المجتمع السوري، قرونًا، في بيئة متعددة دينيًا ومذهبيًا،
وكانت التفاعلات بين الطوائف في معظم المحطات سلمية، تبادلية، قائمة على التعايش والحذر لا الصراع.
لكن فترات التفكك السياسي – من العثمانيين إلى الانتداب الفرنسي –
شهدت لحظات استدعاء للطائفة كوسيط للسلطة أو الحماية أو التمثيل.
ومع الاستقلال، لم يتم تفكيك هذه البُنى ولا دمجها في مشروع وطني جامع،
فبقيت الطائفة كاحتياط رمزي للهوية، وكضامن بديل في لحظات الخوف.
ثم، حين تعمّقت أزمة التمثيل الوطني،
بدأت النُخب الحاكمة تستخدم الانتماء الطائفي كأداة للصعود، لا كمجال للعيش المشترك.
وهكذا، دخلت سوريا في طور السيطرة الطائفية المقنّعة،
لا عبر الإعلان، بل عبر التعيين، والتفضيل، والفرز الخفي،
الذي اختزل طائفةً كاملة في سلطة، وسلطةً كاملة في طائفة.
وهكذا، باتت الطائفة لا تُستدعى للتمثيل، بل تُستغل للشرعنة، فيتحوّل الانتماء إلى رخصة للسلطة أو ساحة للتهميش.
ثالثًا: اختزال الطائفة في شخص… والسلطة في طائفة
أخطر ما أنتجته الطائفية السياسية هو هذا الاختزال المُدمّر:
- أن يُختَزل الطيف العلوي الواسع والعميق والمتنوع في “نظام الأسد”،
- وأن تُرى السلطة كلها كتمثيل لهذه الطائفة،
- وأن يُحمَّل كل فرد فيها مسؤولية بنية لم يخترها.
وهذا الاختزال لا يظلم فقط الطوائف الأخرى،
بل يضع الطائفة ذاتها في موقع الانفجار الداخلي.
فلا العلويون اختاروا النظام،
ولا النظام مثّلهم سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا،
بل استخدمهم درعًا رمزيًا، وزجّهم في ماكينة الحكم والقمع والخوف،
وحين وقعت الكارثة، تركهم مكشوفين، موصومين، ومعزولين.
فكانت الطائفية السياسية طريقًا نحو العزلة الجماعية، لا الحماية، نحو الإدانة الجماعية، لا الشراكة.
الطائفية السياسية، بهذا المعنى، لا تحمي الطوائف، بل تحرقها.
ولا تبني تمثيلًا، بل تُحوّل الهوية إلى عبء.
رابعًا: الطائفية كأداة إدارة لا كموقف فكري
النظام السوري لم يُعلن الطائفية في شعاراته،
بل أنكرها علنًا، ومارسها ضمنيًا،
وجعل منها بنية خفية لإدارة الدولة والمجتمع.
- التعيينات الحساسة في الأجهزة لم تُبْنَ على الكفاءة، بل على الثقة الطائفية.
- تحالفات الأمن والاقتصاد والنخب خضعت لمنطق “الدوائر المضمونة”.
- تم زرع الشك بين المكونات، وتغذية المخاوف المتبادلة،
- وتم تصوير سقوط السلطة كخطر على الطائفة، لا على النظام.
- وتم تضخيم الخوف المتبادل حتى بات كل مكوّن يرى بقاء الآخر خطرًا، وزواله خلاصًا.
وهكذا، أُعيد إنتاج الولاء السياسي ضمن شبكة طائفية غير معلنة، لكنها فعّالة،
وأُجبر المجتمع على النظر لنفسه من خلال مرآة الانتماء المذهبي، لا الوطني.
وهو ما أدّى لاحقًا إلى تفتيت الوعي، وانهيار الثقة، وتعميق الشرخ المجتمعي.
خامسًا: آثار الطائفية على العقد الوطني السوري
لا تنتج الطائفية فقط انقسامًا سياسيًا،
بل تؤدي إلى تحللٍ بطيء في شعور المجتمع بأنه “واحد“.
- تُحوّل الدولة إلى سلطة فئوية،
- والمؤسسات إلى شبكات محسوبية،
- والمواطنة إلى درجة مشتقة من الهوية،
- والتاريخ إلى ساحة اتهام متبادل.
- ويصبح الماضي أداة تعبئة، والحاضر حقل ألغام، والمستقبل مهددًا بانفجار دائم.
وتُشوّه فكرة الوطن،
لأن الانتماء حين يصبح طائفيًا،
تُمحى فكرة “المصلحة العامة”،
وتغيب فكرة “المسؤولية المشتركة”،
ويتحوّل العيش المشترك إلى هدنةٍ مؤقتة لا عقد دائم.
خلاصة الفصل:
الطائفية السياسية في سوريا لم تكن إفرازًا للناس،
بل أداة لإدارة المجتمع من موقع الضعف، والسيطرة من موقع الخوف.
تمّت صناعتها، وتغذيتها، واستثمارها،
حتى أصبحت سلاحًا موجهًا نحو الجميع… دون أن تنقذ أحدًا.
والمواجهة معها لا تكون عبر تبادل اللوم،
ولا عبر تحميل الطوائف وزر السلطة،
بل عبر تفكيك بنية الاختزال،
وإعادة تعريف المواطن، لا كابن لطائفة، بل كشريكٍ في وطن، يحمل مسؤولية، ويملك صوتًا، ويُصاغ عقده الجامع من تنوعه لا على أنقاضه.
ولهذا، فإن النهضة لا تكون إلا حين تتحرر الطائفة من عبء السلطة، وتتحرر الدولة من عبء الطائفة،
ويُعاد بناء الوطن بوصفه مساحة عدالة لا شبكة امتياز.
وطن لا يُعرّف أفراده بمذاهبهم، بل بمواطنتهم، ولا تُقاس فيه الهوية بمدى القرب من السلطة، بل بالقدرة على العيش معًا دون خوف.