web analytics
القسم الأول

الفصل الرابع مركزية دمشق وتكلّس الدولة

نحو تفكيك بنية السلطة الأحادية في الوعي السوري

مدخل فلسفي:

المركزية ليست قرارًا إداريًا، بل اختيار وجودي–سياسي، يحدد كيف تُبنى الدولة، ومن يُمثَّل فيها، وكيف تتوزع السلطة والثروة والمعنى عبر الجغرافيا والمجتمع.

وهي ليست فقط تمركزًا في المكان، بل انحراف في معنى الدولة ذاتها، من كونها عقدًا جامعًا إلى كونها منصة تحكّم فوقية.

في التجربة السورية، لم تُبنَ المركزية على حاجة تنظيمية أو على منطق تنموي، بل على تصور سلطوي يرى في الأطراف تهديدًا، وفي التنوع خطرًا، وفي التوزيع ضعفًا.

فصارت دمشق، لا فقط عاصمة، بل مختبرًا لتكثيف السلطة، وتذويب المعنى الوطني في موقع واحد.

لكن هذه المركزية، التي تمّ تقديسها باسم “الوحدة الوطنية”، و”هيبة الدولة”، و”ضرورة الضبط”،
كانت في الحقيقة أداة لإعادة إنتاج السيطرة، وتهميش المجتمع، وتكريس تبعية الأطراف للمركز السياسي–الأمني.

هذا الفصل لا يكتفي بوصف المركزية السورية،
بل يسعى إلى تفكيكها كنمط وجود، وتحليل أُسسها المعرفية، وفضح أضرارها البنيوية،

تمهيدًا لبناء خطاب نهضوي جديد، يؤسس للامركزية لا كشعار، بل كنقلة معرفية–سياسية في معنى الوطن والدولة والتمثيل.

أولًا: المركزية كمفهوم سلطوي لا كضرورة وطنية

في نظريات الإدارة الحديثة، تكون المركزية أداة تنظيمية، مؤقتة، قابلة للمراجعة،
لكن في السياق السوري، تحوّلت إلى مقدّس سياسي غير قابل للمساءلة.

  • لم تُبْنَ المركزية لأن دمشق قادرة، بل لأنها خاضعة ومُراقَبة ومُمكن التحكّم بها.
  • لم تكن العاصمة مركز إشعاع، بل مركز ضبط.
  • لم تكن تجمع الوطن، بل تُراقبه من بُرج أمني–بيروقراطي عالٍ.

وبذلك، انقلبت المركزية من وسيلة إلى غاية، ومن منطق إدارة إلى منطق حكم،
وصارت دمشق لا فقط “العاصمة”، بل “الدولة”، و”الممثل”، و”المفوّض الحصري” بالحقيقة.

فالمركز لم يكن خيارًا وطنيًا، بل صمّام تحكّم سلطوي بلباس وطني.

ثانيًا: كيف تمّ تكريس المركز كمصدر وحيد للشرعية؟

لم تُفرَض مركزية دمشق بقوة القوانين فقط، بل عبر إعادة تشكيل وعي المجتمع بذاته:

  • الإعلام الرسمي رسّخ صورة “الدولة العاصمة” بوصفها الضامن الوحيد للاستقرار.
  • التعليم زرع تصورًا هرمياً للوطن: القائد–المركز–الهوامش.
  • الخطاب السياسي صوّر التنوع الجغرافي والمناطقي كأرض خصبة للفوضى.
  • وتم توصيف المطالبة بالتمثيل المحلي كخطر انقسامي أو مشروع تخريبي.

وبهذا، تم تحييد الوعي العام عن التفكير في بدائل تنظيمية عادلة،
وجرى تجريم أي دعوة لإعادة توزيع القرار، حتى ضمن حدود الدستور،
وصار الوطن يتكلم من دمشق، ويُرى من دمشق، ويُقرَّر فيه من قلب مكتب واحد.

وهكذا، لم يعد الوطن كيانًا متعدّد الأصوات، بل صدى لصوتٍ واحد صادر من الأعلى.

ثالثًا: الأطراف كأدوات تنفيذ… لا كذاتٍ سياسية

اللا مساواة لم تكن فقط في التنمية، بل في التمثيل والاعتراف.

  • المجالس المحلية تمّ تفريغها من أي سلطة حقيقية.
  • المحافظون ليسوا أبناء المناطق، بل موظفون يُعيَّنون من المركز لإدارة الأوامر.
  • الفاعلون المحليون يُقصَون أو يُستتبَعون ضمن شبكات حزبية أمنية.

وهكذا، لم تُعامَل الأطراف كمكوّن وطني متساوٍ في الدولة، بل كأذرع تنفيذية بلا سيادة، ولا صوت، ولا تأثير.

وهذا ما أدى إلى اختناق بطيء في الجغرافيا والمعنى، حيث انكفأ كل جزء من الوطن على ذاته بحثًا عن حضورٍ مفقود.

  • ازدهار الفساد كمصدر خدمة،
  • انهيار ثقة الناس في الدولة،
  • تصاعد الانتماءات الدنيا،
  • وانفصال صامت عن بنية القرار السياسي.

رابعًا: المركزية كخطر وجودي – كيف ساهمت في الانفجار؟

حين يُقصى المجتمع من القرار،
ويُختزل التمثيل في موظفين بلا استقلال،
ويُفرَض الخطاب من أعلى دون إصغاء،
ويُعامل الوطن كإدارة فرعية لمكتب مركزي…
فإن الانفجار يصبح مسألة وقت، لا احتمال.

وهذا ما حدث.

فالاحتجاجات لم تبدأ رفضًا للأفكار الكبرى، بل صرخة من الأطراف المنسيّة التي لم تجد نفسها في الدولة.

المركزية السورية، بقدر ما سعت إلى توحيد البلاد شكليًا،
ساهمت في تفتيتها جوهريًا.

  • لم تعد الدولة قادرة على فهم المناطق،
  • ولا المجتمعات قادرة على الشعور بالانتماء،
  • ولا النخب المحلية قادرة على التعبير،
  • ولا المركز قادر على الإصلاح لأنه أصبح أسير سلطته وخائفًا من التغيير.

خامسًا: نحو وعيٍ جديد – تفكيك منطق المركز لصالح فلسفة الشراكة

اللامركزية ليست تقسيمًا للدولة،
بل استعادةٌ لمعناها الحقيقي كعقد بين متساوين.
والمركز، في التصور الجديد، ليس مصدرًا للسلطة، بل حلقة ضمن شبكة وطنية موزّعة بشكل عادل.

لهذا، فإن نقد مركزية دمشق لا يعني نقد العاصمة،

بل نقد نموذج الدولة الذي اختزل الوطن في موقعٍ واحد، وجعل الجغرافيا تابعة، والناس متلقّين، والقرار فوقيًّا منزّهًا عن المشاركة، وجرّد الباقي من الحضور والقرار.

نحن نؤسس لفكرة اللامركزية بوصفها:

  • منهجًا معرفيًا يعيد الاعتراف بالتعدد،
  • وأداةً سياسية لإعادة توزيع السلطة،
  • ووسيلةً لإحياء التمثيل،
  • وضمانةً لوحدةٍ حقيقية قائمة على الشراكة لا القسر.

خلاصة الفصل:

مركزية دمشق، كما ترسّخت في التجربة السورية، لم تكن قدرًا إداريًا،
بل اختزالًا سلطويًا لوظيفة الدولة، واعتداءً معرفيًا على معنى الوطن،
وإلغاءً تدريجيًا لفكرة المواطنة المتساوية،
وانقطاعًا خطيرًا بين الجغرافيا والقرار، وبين التنوع والشرعية.

ولهذا، فإن مشروع النهضة الذي نطمح إليه،
لا يمكن أن يُبنى دون تفكيك هذا النمط،
وإعادة تعريف الدولة بوصفها مساحة توزيعٍ عادل للسلطة،
لا احتكارٍ لها في قُبّةٍ واحدة، مهما كانت عظيمة.