web analytics
القسم السادس – الباب الأول

الفصل الرابع هندسة منظومة الأمن الوطني في إطار الدولة الدستورية

مدخل تأسيسي

لطالما شكّل مفهوم الأمن في التجربة السورية أداة قمع داخلي بيد السلطة، لا وظيفة حماية وطنية للمجتمع والدولة.

تحولت الأجهزة الأمنية إلى سلطات فوق الدستور والقانون، وارتبط مفهوم الأمن بممارسات الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإخفاء القسري، وملاحقة الحريات، حتى صار المواطن يرى في دولته تهديدًا لا حماية.

ولذلك فإن مشروع النهضة السورية لا يمكن أن يكتمل دون إعادة هندسة جذرية لمنظومة الأمن الوطني: تعريفًا، وهيكلة، ووظيفة، وعلاقة بالمجتمع.

أولًا: إعادة تعريف مفهوم الأمن الوطني

ينبغي استبدال المفهوم السلطوي القديم للأمن بمفهوم وطني دستوري جديد يقوم على:

حماية السيادة الوطنية من أي اعتداء خارجي أو داخلي.

صيانة سلامة المجتمع والأفراد في حياتهم وحقوقهم الأساسية.

ضمان استقرار النظام الدستوري ودعم آليات التداول السلمي للسلطة.

حماية الحريات العامة وحقوق الإنسان بوصفها جزءًا من الأمن الوطني وليس نقيضًا له.

الوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى الاجتماعية والسياسية دون تمييز أو انحياز.

الأمن الوطني هو، إذن، خدمة للمجتمع، وليس تسلطًا عليه.

ثانيًا: المبادئ الحاكمة لمنظومة الأمن في الدولة الدستورية

تقوم المنظومة الجديدة على المبادئ التالية:

الاحتكام المطلق للدستور والقانون
بحيث لا تتمتع أي جهة أمنية بأي صلاحيات استثنائية دائمة خارج رقابة القضاء.

التخصص الوظيفي

أي الفصل الواضح بين المهام الأمنية (مكافحة التجسس، حماية المؤسسات) والمهام الشرطية (الأمن الجنائي، حماية المواطنين).

الشفافية والمساءلة
عبر إخضاع المؤسسات الأمنية للرقابة البرلمانية والقضائية وللرأي العام ضمن الحدود المشروعة.

الحياد السياسي التام
بحيث تُمنع الأجهزة الأمنية دستوريًا من دعم أو معاداة أي حزب أو تيار سياسي.

حظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية كليًا
مع إخضاع أي انتهاك للعقوبات القضائية الصارمة دون حماية أو تبرير.

ثالثًا: هيكلة الأجهزة الأمنية الوطنية

مجلس الأمن الوطني الأعلى
هيئة دستورية تشرف على رسم السياسات الأمنية، تتبع للسلطة التنفيذية ولكن برقابة تشريعية صارمة.

جهاز المخابرات العامة
معني حصريًا بمكافحة التجسس والإرهاب الدولي، خاضع للقضاء المدني والمساءلة الدورية.

مديرية أمن الدولة الدستورية
وظيفتها حماية النظام الدستوري دون تدخل في الحياة السياسية السلمية.

الشرطة الوطنية
جهاز مدني بحت، خاضع لوزارة الداخلية المنتخبة ديمقراطيًا، مع معايير صارمة لمنع عسكرة الشرطة.

إلغاء كل الأجهزة السرية أو غير الرسمية
ومنع تشكيل أي قوى أمنية موازية تحت أي ذريعة كانت.

رابعًا: الضمانات الدستورية والقانونية للحقوق أمام الأمن

حق المواطن في المعرفة
بمعنى أن يتم إعلام المواطن صراحة بكل حقوقه عند أي توقيف أو استدعاء.

حق اللجوء الفوري إلى محامٍ
وعدم إجراء أي تحقيق دون حضور دفاع قانوني.

حظر الاحتجاز السري أو غير الرسمي
ووجوب تسجيل كل حالات التوقيف فورًا في سجلات متاحة للقضاء وللمراقبة العامة.

المراجعة القضائية الفورية لأي إجراء أمني
بحيث يتم عرض أي شخص موقوف على القضاء خلال مدة لا تتجاوز 48 ساعة.

تعويض الضحايا
عن أي اعتقال تعسفي أو انتهاك يتعرضون له، بموجب أحكام قضائية نافذة.

خامسًا: إعادة بناء الثقافة الأمنية

يتطلب إصلاح الأمن الوطني:

تغيير مناهج التدريب الأمني
بإدخال مواد إلزامية حول حقوق الإنسان، القانون الدستوري، وأخلاقيات العمل الأمني.

زرع ثقافة خدمة المجتمع
بدلًا من ثقافة السيطرة عليه، عبر إعادة تعريف وظيفة رجل الأمن كخادم للمصلحة العامة لا أداة للبطش.

تعزيز الانتماء الوطني المؤسساتي
بحيث تكون الولاءات للوطن والدستور، لا للأشخاص أو الأحزاب أو الطوائف.

تشجيع الإعلام على مراقبة الأداء الأمني
ضمن إطار احترام الخصوصيات الأمنية المشروعة، لدعم الشفافية والمساءلة المجتمعية.

سادسًا: التحديات المتوقعة وآليات معالجتها

مقاومة التغيير من بقايا الأجهزة القديمة
ما يستلزم سياسة تطهير إداري وهيكلة تدريجية ذكية لا تدمر الكفاءات النزيهة.

مخاطر التدخلات الخارجية
عبر مشاريع تجسسية أو تخريبية تسعى لإبقاء الفوضى الأمنية، وهو ما يتطلب يقظة وطنية عالية المستوى.

ضعف الثقة الشعبية بالأجهزة الأمنية
ما يستوجب بناء جسور جديدة من خلال أداء شفاف، وعدالة مهنية صارمة، وفتح قنوات الشكاوى والمراجعة.

مشكلة الأمن المحلي غير المنضبط

خاصة في المناطق الخارجة حديثًا من النزاعات، مما يستلزم استراتيجيات دمج تدريجي للمجموعات المحلية ضمن أطر وطنية دستورية.

خاتمة الفصل

هندسة منظومة الأمن الوطني هي إحدى أعقد تحديات بناء سوريا الجديدة، لكنها أيضًا من أخطر مفاتيح النجاح.

فلا أمن بلا حرية، ولا حرية بلا مسؤولية، ولا دولة بلا أجهزة أمنية مهنية، شفافة، خاضعة للقانون، تحمي المواطن بدلًا من تهديده، وتصون الدستور بدلًا من تقويضه.

إنها معركة ثقافة، ومؤسسات، وإرادة سياسية صلبة، يجب أن تُخاض بوعي تاريخي عميق بأن مأساة الماضي لا يجوز أن تتكرر مهما كانت الأعذار.