web analytics
القسم الثامن – الباب الأول

الفصل الرابع تأسيس المجلس الأعلى للقضاء وإدارة العدالة

مقدّمة تمهيدية:

لا تكتمل استقلالية السلطة القضائية في أي دولة إلا بوجود جهاز مؤسسي داخلي يضبط بنيتها، ينظّم أداءها، ويراقب أعضاءها من داخل المنظومة ذاتها دون خضوع للسلطتين التنفيذية أو التشريعية. وفي التجارب الدستورية المقارنة، يُعتبر المجلس الأعلى للقضاء هو الآلية الفعلية لتحقيق هذا الاستقلال، لأنه يُجسّد الإدارة الذاتية للقضاء، ويمنع تحوّله إلى أداة وظيفية خارجية.

لكن في الحالة السورية، فإن هذا المجلس لم يكن يومًا مستقلاً، بل كان تابعًا لرأس السلطة التنفيذية، ما أفقد القضاء معناه، وحوّله إلى ذراع إدارية تستخدمه الأنظمة لتصفية الخصوم أو شرعنة الاستبداد.

ولذا، فإن إعادة تأسيس المجلس الأعلى للقضاء في سوريا الجديدة لا يُمكن أن تكون إعادة تنظيم لهيكل قديم، بل يجب أن تكون إعادة تأسيس وظيفية شاملة، تنبع من فلسفة السيادة القانونية، وتُبنى على معايير التخصص، الكفاءة، النزاهة، والتوازن المؤسسي.

أولًا: الوظيفة التكوينية للمجلس الأعلى للقضاء

المجلس الأعلى ليس جهازًا تمثيليًا، بل هو بنية سيادية تنظيمية تتولى إدارة العدالة بمعناها الشامل، ويُناط به:

تعيين القضاة وترقيتهم وتوزيعهم؛

ضبط الأداء القضائي وتأديب المخالفين؛

تنظيم الحركة الوظيفية داخل السلطة القضائية؛

حماية استقلالية القضاء من أي تدخل أو ضغط خارجي؛

تقديم الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المنظومة القضائية وتطويرها؛

التنسيق مع المحاكم، ومع وزارة العدل كجهاز إداري خدمي لا وصائي.

ويقوم المجلس بهذا الدور بوصفه حارسًا لبنية العدالة داخل الدولة، وليس كمجرد جهاز إداري للمحاكم.

ثانيًا: التكوين الهيكلي للمجلس – من التعيين إلى التوازن المؤسسي

  1. تركيبة المجلس:

يتألف من عدد فردي (9–13) من القضاة الأرفع مقامًا، إضافة إلى:

  • ممثل واحد عن محاكم البداية؛
  • ممثل واحد عن محاكم الاستئناف؛
  • قاضٍ منتخب من القضاة الشباب؛
  • ممثل عن المحاكم المتخصصة؛
  • عضو مراقب من مفوضية حقوق الإنسان (بصوت استشاري فقط).
  1. شروط العضوية:

النزاهة، والخبرة القضائية الفعلية لا تقل عن 15 عامًا (باستثناء العضو الشاب).

عدم وجود سوابق سياسية أو انتماء حزبي أو وظيفي سابق ضمن الأجهزة التنفيذية أو الأمنية.

انتخاب الأعضاء من قبل جمعيات القضاة، وليس بالتعيين السلطوي.

تجديد دوري للعضوية (كل 4 سنوات بحد أقصى)، وعدم جواز التمديد التلقائي.

  1. رئاسة المجلس:

تُنتخب من داخل المجلس، ولا تُسند تلقائيًا لرئيس الدولة أو وزير العدل، كما في النموذج السوري السابق.

تُمارس الرئاسة مهام التنسيق الإداري فقط، دون سلطة فوقية على بقية الأعضاء.

ثالثًا: صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء – من الرقابة إلى البناء المؤسسي

تنظيم السلك القضائي بكل درجاته وتخصصاته؛

تعيين القضاة الجدد وفق آليات تنافسية نزيهة؛

اقتراح مشاريع إصلاح قضائي وسياسات تطوير العدالة؛

الإشراف على المدارس القضائية ومعايير التدريب؛

إصدار تقارير سنوية عن واقع القضاء ونشرها علنًا؛

التنسيق مع السلطة التشريعية في مشاريع القوانين القضائية دون إخضاع أو تبعية؛

مراجعة الشكاوى ضد القضاة واتخاذ قرارات تأديبية مستقلة؛

ضمان تمويل مستقل للسلطة القضائية وإدارة ميزانيتها؛

التعاون مع الهيئات الدولية في بناء القدرات وتحديث منظومة العدالة.

رابعًا: استقلال المجلس عن السلطتين التنفيذية والتشريعية

لا يخضع المجلس لأي جهة تنفيذية، ولا يتبع وزارة العدل، التي تتحوّل إلى جهاز إداري لوجستي فقط؛

لا يمكن عزل أعضائه إلا بموجب تحقيق داخلي قضائي وقرار بالأغلبية؛

لا يجوز للمجلس ممارسة صلاحيات قضائية مباشرة، بل هو جهاز تنظيم وتقييم؛

لا يخضع موازنته السنوية لموافقة الحكومة، بل يُعرض مباشرة على السلطة التشريعية ضمن فصل خاص مستقل.

خامسًا: المسار الانتقالي لتفعيل المجلس الأعلى للقضاء في سوريا الجديدة

إلغاء المجلس القائم حاليًا وكل قراراته المتأثرة بتدخلات سياسية أو أمنية؛

إجراء انتخابات قضائية داخلية لاختيار أول مجلس مؤقت بصلاحيات انتقالية؛

إصدار قانون تأسيسي يحدد التكوين والصلاحيات والمبادئ الحاكمة لعمل المجلس؛

ربط المجلس بمفوضية العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان لتقويم الأداء في المرحلة الأولى؛

نشر خارطة طريق مفصلة لإعادة هيكلة الجسم القضائي بإشراف هذا المجلس؛

إعادة تكوين مجلس القضاء الأعلى كجهاز دائم خلال سنة من المرحلة الانتقالية الأولى، بعد تقييم الجسم القضائي بأكمله.

خاتمة الفصل:

يشكّل المجلس الأعلى للقضاء حجر الزاوية في استقلال السلطة القضائية، وضمان عدم عودتها إلى التبعية، أو الانزلاق نحو الفساد أو الصمت. وفي الحالة السورية، فإن هذه الهيئة هي مفتاح استعادة العدالة، وبوابة تجديد الثقة بين المجتمع والدولة. وبانتقالنا إلى الفصل الخامس، نصل إلى استكمال البنية القضائية العليا، من خلال إنشاء المحكمة الدستورية العليا كضامن أعلى لحماية النص الدستوري ومنظومة الحقوق.