القسم العاشر – الباب الأول
الفصل الرابع التقييم السياسي والدستوري من النص الجامد إلى التطوير المستمر
بناء آلية مستدامة لتقييم منظومة الحكم وتطوير النصوص الناظمة للسلطة والمجتمع
أولًا: الإشكالية المتجذرة – جمود النص وفوضى الواقع
لم يكن الفشل السياسي والدستوري في سوريا مرتبطًا فقط بانعدام الديمقراطية، بل أيضًا بتحويل النصوص الدستورية والقانونية إلى أدوات شكلية جامدة، منفصلة عن حركة المجتمع وتطوره، وفي كثير من الأحيان متناقضة معه.
وقد أُنتجت دساتير لا تُطبَّق، وقوانين لا تُراجع، ومؤسسات لا تخضع لأي تقييم بنيوي أو وظيفي، ما أدى إلى ترسخ نمط سلطوي مغلق وعاجز عن التكيّف أو التصحيح الذاتي.
وبغياب آليات التقييم والتعديل، تحوّل النظام إلى كيان مغلق على نفسه، يُقاوم أي إصلاح، ويُعادي أي نقد، ويعتمد في بقائه على القهر بدل المراجعة، وعلى الاستمرار بدل الاستحقاق.
ثانيًا: التحديات القائمة أمام إنشاء نظام تقييم ديناميكي
إن بناء نظام ديمقراطي قابل للاستمرار يتطلب تجاوز تحديات جوهرية، أبرزها:
ثقافة قانونية تُقدّس النص وتمنع الاقتراب منه، ما يجمّد حركة الدولة داخل أطر موروثة.
غياب أي مؤسسات مستقلة للتقييم والمراجعة، وانعدام الدور الفعلي للبرلمان في التشخيص والتعديل.
تداخل السلطات وغياب المساءلة الهيكلية، مما يُفرغ عملية التقييم من أي أثر فعلي.
فوضى تشريعية وتشابك في الصلاحيات، يمنع أي رصد واضح لتأثير القانون أو فعاليته.
خوف النخب السياسية من آليات المراجعة الدورية التي قد تُهدد امتيازاتها أو تكشف قصورها.
ثالثًا: مبدأ التقييم بوصفه ضمانة سيادية للحكم الرشيد
تقييم النظام السياسي والدستوري ليس فعلًا طارئًا أو استثنائيًا، بل هو آلية جوهرية لضمان تكامل السيادة الداخلية، ولمنع إعادة إنتاج الفشل أو القصور.
والمجتمع الذي لا يُقيّم أداء السلطة والدستور والقانون هو مجتمع مرشّح للفوضى أو الديكتاتورية أو الانهيار.
ولذلك، فإن دمج آليات التقييم الدوري ضمن بنية الدولة ليس خيارًا، بل ضرورة وجودية، ومفتاح لتجديد الشرعية، وتصحيح المسار، واستباق الأزمات بدل الانفجار.
رابعًا: خطة العمل لبناء منظومة تقييم سياسية–دستورية فعّالة
1. تثبيت مبدأ المراجعة الدورية في النص الدستوري
النص على مراجعة كل القوانين الدستورية الأساسية كل خمس سنوات على الأقل.
إقرار حق البرلمان والمجالس المحلية ومكونات المجتمع المدني في المطالبة بالمراجعة الرسمية للنصوص الناظمة للسلطة.
تفعيل مبدأ أن “صلاحية الدستور لا تُفهم كثباته، بل كقدرته على التجدد مع استقرار المبادئ”.
2. تأسيس هيئة وطنية عليا للتقييم السياسي والدستوري
هيئة دائمة، مستقلة، متعددة التخصصات، تُكلَّف بتقديم تقييم شامل دوري لأداء السلطات الثلاث.
صلاحيات تشمل التحقيق، وجمع البيانات، والمقارنة، والاستطلاع، والاستماع للخبراء والمجتمع.
نشر تقرير سنوي علني يُقدَّم للبرلمان ويُعرض على الرأي العام، مع توصيات تفصيلية قابلة للتطبيق.
3. إدماج مؤسسات البحث والفكر في عملية المراجعة التشريعية
تفعيل دور الجامعات ومراكز السياسات والمجتمع المدني كمصادر معرفة وتقييم موضوعي.
توفير بوابات مفتوحة للمواطنين والجهات الاجتماعية لتقديم مراجعات واقتراحات.
دعم البحث الأكاديمي في العلوم السياسية والدستورية ليُسهم في تطوير التجربة السياسية لا فقط مراقبتها.
4. إعادة تصميم العلاقة بين التشريع والممارسة
إنشاء وحدات دائمة في كل وزارة وهيئة عامة لتقييم أثر القوانين على الأداء والنتائج.
تطوير آليات للتغذية الراجعة القانونية من الإدارات العامة إلى السلطة التشريعية.
اعتماد مؤشر وطني لتقييم القوانين من حيث: الأثر – العدالة – القابلية للتطبيق – مرونة التعديل – رضا المواطنين.
خامسًا: خارطة تنفيذية زمنية للتأسيس والتفعيل
- المرحلة الأولى (أشهر 0–12)
إقرار المادة الدستورية الخاصة بالمراجعة الدورية للنظام السياسي والقانوني.
تشكيل الهيئة الوطنية العليا للتقييم السياسي والدستوري.
إطلاق ورش تشاركية وطنية لتشخيص الفجوات في النظام القائم.
- المرحلة الثانية (سنة 1–3)
إجراء أول تقييم شامل لأداء السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
تعديل أولي لبعض القوانين الأساسية بناء على توصيات المرحلة التقييمية.
تفعيل مؤشرات التقييم ضمن خطة وطنية للحوكمة.
- المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)
دمج التقارير السنوية للتقييم ضمن آلية صياغة السياسات العامة.
مأسسة مراجعة الدستور كل 5 سنوات وفق مسار رسمي شفاف.
تطوير نظام تقييم ذكي رقمي–ميداني، يسمح بالمتابعة والتحديث اللحظي لأداء الحكم والقانون.
سادسًا: التقييم السياسي والدستوري كأداة للمرونة لا للاضطراب
في سوريا ما بعد الاستبداد، لن يكون الدستور أداة تمجيد للحاكم، ولا القانون وسيلة تزوير للشرعية، بل سيرورة مستمرة من الفحص والتحسين والتكيف.
إن القدرة على مراجعة الذات السياسية والقانونية ليست ضعفًا، بل علامة نضج واستقرار. والمجتمع الذي يُراجع بنيته السياسية دوريًا، هو مجتمع لا يخشى من التجدد، ولا يحتاج للانفجار كي يُعيد صياغة نفسه.