web analytics
القسم التاسع – الباب الأول

الفصل الرابع مبدأ الشرعية الشعبية والسيادة السياسية

من الغلبة إلى الرضى العام

مقدمة تأسيسية: ما معنى أن تكون السيادة فعلًا شعبيًا لا غلبة سلطوية؟

الشرعية ليست توصيفًا قانونيًا مجردًا، ولا صك اعتراف يُمنح من الخارج، ولا إرثًا يُنتقل من سلطة إلى أخرى.

الشرعية هي فعل وجود سياسي–أخلاقي–اجتماعي، يتكوّن حين يشعر الناس أن من يحكمهم يمثلهم، وأن القرار الذي يُتخذ باسمهم يعبّر عنهم، وأن الدولة التي تدير شؤونهم تنبع منهم لا تُفرض عليهم.

وفي التاريخ السوري الحديث، كانت الشرعية دائمًا محل التباس خطير.
لم تنشأ من الإرادة العامة، بل من توازنات القوة، أو الانقلابات، أو الشعارات، أو الدعم الخارجي.

ولذلك، بقيت السيادة السياسية في سوريا مشروطة، مرتعشة، مشكوكًا فيها من الشعب نفسه، ومعلقة في فراغٍ لا تثبته صناديق اقتراع، ولا يطهره الصمت الإجباري.

في مشروع النهضة، لا نبدأ من إصلاح القوانين فقط، بل من إعادة تعريف الشرعية، لا بوصفها ترخيصًا للحكم، بل عقدًا مع الناس.

فلا سلطة دون رضى، ولا حكم دون تمثيل، ولا قرار دون مشاركة، ولا شرعية دون مساءلة.

أولًا: من أين جاءت الشرعية في سوريا؟ ولماذا فشلت؟

  1. شرعية القوة: من الانقلاب إلى الاستمرار القسري

منذ 1949، بدأ تقويض الإرادة الشعبية عبر عسكرة الدولة، وتم تهميش المؤسسات المنتخبة تدريجيًا لصالح منظومات أمنية–عسكرية فرضت نفسها بوصفها “حامية للوطن”، ثم ما لبثت أن نصّبت نفسها وصيًّا عليه.

ومع صعود البعث، تحولت الشرعية إلى مفهوم أيديولوجي–شمولي، يقوم على ثلاثية:

الحزب هو الدولة

القائد هو الوطن

الشعب هو الكتلة الصامتة التي تبارك دون أن تقرر

وبذلك، تم نسف جوهر الشرعية السياسية: الرضى العام الناتج عن التمثيل والمشاركة.

  1. شرعية الصراع لا شرعية التمثيل

خاض النظام معاركه الداخلية والخارجية باسم “الثوابت الوطنية”، و”محور المقاومة”، و”مواجهة المؤامرة”، لكن لم تكن هذه الشعارات سوى واجهة تخفي فقرًا مدقعًا في المشروعية.

فحين تُستخدم الوطنية كذريعة للاستثناء، ويُتهم المعارض بالخيانة، وتُختزل الدولة في السلطة، تُقتل السياسة، ويتحوّل الحكم إلى تسلّط.

  1. الشرعية كختم خارجي لا كعقد داخلي

حين تراجعت قاعدة الرضى الشعبي، سعى النظام إلى تعويضها بالاعتراف الدولي، أو الدعم من قوى كبرى، أو الترويج لاستقراره كمبرر لبقائه.

لكن الاعتراف الخارجي، مهما بلغ، لا يصنع شرعية سياسية.
فهو قد يمنح اعترافًا وظيفيًا، لكنه لا يعوّض عن فقدان الرضى العام في الداخل.

ثانيًا: نحو تعريف جديد للشرعية السياسية في الدولة السيادية

  1. من الاحتكار إلى التمثيل

الشرعية لا تقوم على ادعاء النطق باسم الشعب، بل على تعددية ناطقة من داخل الشعب ذاته.
لا يحتكر أحد الحق في التحدث باسم الوطن. الوطن مكوّن من ناس، وهؤلاء الناس متعددو الرؤى والانتماءات، ومنهم تُستخرج الشرعية، لا من حزب، ولا من جهاز، ولا من “مشروع فوقي”.

  1. من الشرعية المصطنعة إلى الشرعية المُكتسبة

الشرعية لا تُفرض بقوة السلاح، ولا تُصنع من مؤتمرات شكليّة، بل تُبنى عبر:

انتخابات حرة

دستور متوافق عليه

إعلام حر

قضاء مستقل

مجتمع مدني فعّال

مؤسسات شفافة

كلما زادت أدوات المشاركة والرقابة، زادت الشرعية، وكلما ضاقت، تقلّصت حتى الانفجار.

  1. من الطاعة إلى الرضى

الطاعة لا تعني الاعتراف، بل الخضوع. والشرعية لا تُقاس بغياب التمرد، بل بوجود الثقة العامة.

في مشروع النهضة، يُعاد بناء مفهوم الشرعية على قاعدة أن الدولة ليست سلطة تطلب الولاء، بل مؤسسة تكتسب الثقة كل يوم من خلال أدائها.

  1. من الشعب كجمهور إلى الشعب كمالك سيادة

ليس الشعب جمهورًا في مسرح السلطة، بل هو المصدر الوحيد للشرعية والسيادة.

وكل تفويض لا يصدر عن الناس أنفسهم، ولا يُجدّد عبر آليات دورية وشفافة، هو تفويض باطل، حتى لو حمل كل أختام العالم.

ثالثًا: السياسات التنفيذية لاستعادة الشرعية الشعبية

  1. إطلاق مسار تأسيسي يشرّع الشرعية

مؤتمر وطني تأسيسي جامع لا يُقصي أحدًا ممن يؤمنون بوحدة سوريا وسيادتها.

صياغة عقد اجتماعي جديد يُطرح على استفتاء شعبي نزيه.

الانتقال إلى دستور يمثل هذا العقد لا يُفرض من فوق ولا يُرث من النظام السابق.

  1. سنّ قانون الانتخابات العامة وفق مبدأ السيادة الشعبية

يعتمد على التمثيل النسبي والرقابة القضائية والمجتمعية.

يضمن حق الترشّح لكل مواطن دون اشتراط ولاءات حزبية أو خلفيات أمنية.

يحظر تدخل الدولة أو الأجهزة أو المال السياسي في توجيه النتائج.

  1. ضمان استقلال القضاء كأداة تحكيم شرعي

إعادة بناء السلطة القضائية عبر مجلس أعلى مستقل للعدالة.

تفعيل المحاكم الدستورية والإدارية كضامن لحقوق الناس وشرعية المؤسسات.

تحصين القضاة من الابتزاز أو التوجيه السياسي.

  1. تمكين المجتمع من مراقبة الشرعية

إقرار قانون الحق في الوصول إلى المعلومات.

تشجيع الصحافة الاستقصائية والمنظمات الرقابية.

تأسيس هيئة مستقلة للمساءلة المؤسسية تنشر تقارير دورية عن أداء الدولة.

  1. مراجعة وتصفية أدوات الشرعية الزائفة

إلغاء كل القوانين التي تمنح شرعية استثنائية (كقانون الطوارئ السابق).

تجريم استخدام الإعلام الرسمي لتكريس “الزعيم الأوحد” أو “السلطة المخلّصة”.

إعادة تعريف العلاقات بين الدولة والمجتمع على قاعدة الحقوق لا الامتنان.

خاتمة تأسيسية

في سوريا الجديدة، لا تقوم الشرعية على الخوف، ولا تُصاغ في غرف معتمة، ولا تستمد وجودها من توقيع قوة عظمى أو مباركة تحالف إقليمي.

بل تُبنى من الإنسان السوري نفسه، عبر إرادته الحرة، ومشاركته الفعالة، وثقته بأن هذا الوطن له، والدولة التي تحكمه ليست مالكة لرقابه، بل خادمة لسيادته.

ومن الغلبة التي أورثت القهر، ننتقل إلى الرضى الذي يؤسس للسيادة.
ومن شرعية السلاح والزعيم، نؤسس لشرعية الشعب، العقد، والمساءلة.