web analytics
القسم الرابع – الباب الثاني

الفصل الرابع الإعلام السيادي

من التلقين إلى التنوير

 مقدمة تحليلية

في الدول الاستبدادية، لا يكون الإعلام وسيلة للمعرفة، بل أداة للهيمنة.
يتحوّل من سلطة رقابة ومساءلة إلى جهاز دعاية،
ومن منصة لصوت الشعب إلى مكبّر لصوت الحاكم،
ومن مجال للنقد إلى معمل لغسل العقول.

وسوريا لم تكن استثناءً، بل كانت نموذجًا صارخًا في تدمير الإعلام كوظيفة مجتمعية، وتحويله إلى ذراع أمني–أيديولوجي، مهمته تثبيت النظام لا كشف الحقيقة.

ثم جاءت الحرب، فزاد الانقسام الإعلامي فوضىً على فوضى:
قنوات الثورة انزلقت إلى خطاب التجييش والتخوين.
القنوات المذهبية ضخّت سموم الكراهية.
القنوات الرسمية واصلت التزييف والتعمية.

فتحوّل المواطن إلى كائن تائه بين أبواق متصارعة، لا يجد فيها صوتًا يعبر عنه، ولا منبرًا يُطمئنه، ولا إعلامًا يحترم عقله.

ولذلك، فإن بناء سوريا الجديدة يستدعي تحرير الإعلام، لا فقط من الرقابة، بل من وظيفته القديمة في إعادة إنتاج القمع والانقسام، وتحويله إلى أداة سيادة معرفية، وتنوير سياسي، ومواطنة نقدية.

 أولًا: الإعلام في عهد الاستبداد – بين العبادة والتزييف

  1. الإعلام الرسمي بوصفه جهاز دعاية شمولية
    صياغة خطاب يمجّد الزعيم، ويُقصي المعارضة، ويُجرّم النقد.
    استخدام القنوات الرسمية لترويج الأيديولوجيا البعثية والتكتم على الفشل.
  2. تكميم الإعلام المستقل ومحاصرته
    منع التراخيص، مصادرة المطبوعات، سجن الصحفيين، وإغلاق المجال العام أمام أي رأي حر.
  3. شيطنة الإعلام الخارجي وربط الرأي الآخر بالخيانة
    لم يكن الاختلاف مسموحًا به، بل مصنَّفًا كـ”تحريض على الفتنة”، و”تآمر على الوطن”.

 ثانيًا: إعلام الحرب والانقسام – من صوت الناس إلى سلاح في الصراع

  1. الانقسام الإعلامي الطائفي–الفصائلي
    كل جهة تنتج قناتها لتروّج سرديتها وتبرّر انتهاكاتها.
    غياب المهنية، وتضخيم خطاب الكراهية.
  2. الإعلام المعارض وفقدان البوصلة الأخلاقية
    رغم كسرها للاحتكار، إلا أن كثيرًا من منصات الثورة سقطت في خطاب الثأر أو الفوضى.
  3. صعود إعلام التواصل بوصفه المصدر الأوسع – والأخطر
    دون مرجعية أو تحقّق، باتت الإشاعة توازي الحقيقة، واللايقين ينهش ثقة الناس بكل شيء.

 ثالثًا: الإعلام السيادي – رؤية بديلة

  1. من الولاء للسلطة إلى الولاء للحقيقة
    الإعلام لا يخدم الحكومة، بل يُراقبها، ويُحاسبها، وينقل صوت المجتمع.
    الاستقلال المهني هو أساس شرعية الإعلام الجديد.
  2. من الإعلام المركزي إلى التعدد المهني المسؤول
    تشجيع تعددية المنابر، شرط أن تحترم القيم الدستورية، وتلتزم بالمعايير الأخلاقية.
    إعلام محلي ومجتمعي يمثل الناس في أماكنهم، لا يملي عليهم من المركز.
  3. من التلقين إلى التنوير
    بناء محتوى يُنمّي التفكير النقدي، لا الخضوع.
    الانفتاح على النقاش العام والحوارات المفتوحة بدل الإملاء والتوجيه.
  4. من الانفعال إلى المهنية
    تقنين الإعلام، لا بقمعه، بل بضبط ميثاق أخلاقي يضمن التوازن، ويحمي الحقيقة من التسليع أو التشويه.

 رابعًا: شروط الإعلام الوطني في مشروع النهضة

  • إطار قانوني يحمي حرية الصحافة ويمنع الرقابة المسبقة.
  • هيئة مستقلة لتنظيم الإعلام، لا تتبع الحكومة ولا الأحزاب.
  • حماية الصحفيين والمؤسسات الإعلامية من القمع والتهديد.
  • تضمين التربية الإعلامية في المناهج المدرسية لترسيخ عقل نقدي لدى الجيل الجديد.

 خامساً: الإعلام والسيادة المعنوية

  • لا سيادة وطنية دون سيادة إعلامية تنتج خطابًا محليًا نابعًا من الواقع لا من الوصاية الخارجية.
  • الإعلام الوطني ليس خادمًا للدولة، بل شريكًا في صياغة العقل العام، وحارسًا لقيم الحرية والعدالة.

 خاتمة الفصل

في سوريا ما بعد الاستبداد، لا نريد إعلامًا يُصفّق أو يُحرّض،
بل نريد إعلامًا يسأل، ويُضيء، ويُربّي على الحرية لا على الكراهية.

فالمواطنة تبدأ حين يصبح الإعلام مرآة حقيقية للمجتمع،
وحين يشعر المواطن أن صوته مسموع، وأن الحقيقة لم تعد جريمة.