القسم التاسع – الباب الرابع
الفصل الرابع عشر السياسة التعليمية
من التلقين إلى بناء الإنسان الحر
مقدمة تأسيسية: المدرسة ليست غرفة صف، بل نواة دولة
في المجتمعات الخارجة من الاستبداد، تكون المدرسة أولى ساحات المعركة بين الاستمرار والتغيير، بين إعادة إنتاج القهر أو صناعة الوعي، بين التلقين والطاعة، أو الانفتاح والتحرر.
في سوريا، لم يكن التعليم يوماً وسيلة لبناء الإنسان، بل كان في كثير من الأحيان أداة لإعادة إنتاج السلطة.
– فالمناهج كُتبت لتمجيد الزعيم، لا لتحرير العقل،
– والمعلمون دُرّبوا على ضبط الصف لا على إشعاله بالفكر،
– والمدارس كانت مؤسسات أمنية مقنّعة،
– والجامعات مزارع امتياز لا ساحات حوار.
لقد نشأ جيل كامل في ظل تعليم يُنتج الخوف، لا الثقة؛
التكرار، لا النقد؛
الحفظ، لا الخلق؛
الانضباط الصوري، لا التفكير المنهجي؛
وكان النظام يعتبر كل فكر حرّ تهديدًا، وكل سؤال سياسي خطرًا، وكل خروج عن السطر انحرافًا.
ومع انهيار البنية التحتية، ونزوح ملايين التلاميذ، وتفكك المؤسسات، بات واضحًا أن الأزمة التعليمية ليست في الغرف والمقاعد فقط، بل في الرؤية نفسها.
في مشروع النهضة، تُعاد صياغة التعليم بوصفه مسارًا تحرريًا لإنشاء الإنسان السوري الجديد،
الإنسان الذي لا يُطبع على الطاعة، بل يُبنى على الوعي،
لا يُلقَّن، بل يُسأل،
لا يُعلَّم كي يتكيّف، بل كي يغيّر.
أولًا: التعليم في سوريا – من إنتاج الطاعة إلى إفقاد القيمة
- المناهج كأداة تطويع
لم تكن المناهج التعليمية وسيلة تفكير، بل نظامًا مغلقًا لإعادة إنتاج الرواية الرسمية.
– التاريخ أُعيدت كتابته،
– الفكر السياسي مُسِخ،
– المواطنة أُفرغت من معناها،
– والتربية تحوّلت إلى تطويع نفسي يومي.
- التسييس والبعثنة والإقصاء
– تم تعيين المعلمين بحسب الولاء لا الكفاءة،
– وطُرد من يخالف التوجّه السياسي،
– وغابت أصوات المرأة، والمهمشين، والمناطق المنسية،
– بل وغابت المكوّنات القومية والثقافية غير العربية من الذاكرة التعليمية كليةً.
- تهميش المعلم وانهيار الكادر
المعلم، الذي كان يُفترض أن يكون أداة بناء، تحوّل إلى عنصر مسحوق اقتصاديًا ومُراقب سياسيًا.
– أُضعفت قدراته،
– أُهين في موقعه،
– حُرِم من التدريب والتطوير،
– وأُجبر على تكرار نص لا يؤمن به.
- غياب التعليم المجاني الجاد والتعليم المهني المنتج
– انهار التعليم العام،
– وهيمنت الدروس الخصوصية،
– وتحوّل التعليم المهني إلى “ملجأ الفاشلين”، لا إلى أداة بناء اقتصاد.
ثانيًا: فلسفة التعليم في مشروع النهضة – تحرير العقل لصناعة المواطن
- من المعرفة إلى الوعي
لا يكفي أن يُحفظ الطالب المعلومات، بل يجب أن يُدرّب على إنتاجها، وتفكيكها، ومقارنتها، ونقدها.
فالتعليم ليس تكديسًا، بل تحفيز على التفكير، على الفهم، على اتخاذ الموقف.
- من الطاعة إلى الشراكة
المدرسة ليست جهاز ضبط، بل فضاء لبناء الإنسان.
– الطالب ليس متلقّيًا بل مشاركًا،
– المعلم ليس سلطة عليا بل مُرافقًا،
– الصف ليس خشبة مسرح بل مختبرًا للمشاركة، والكرامة، والتجريب.
- من المركزية إلى اللامركزية التربوية
لا يجب أن تكون كل المدارس نسخًا عن بعضها، بل تُمنح المناطق والبلديات صلاحيات لإنتاج مناهج محلية تكميلية تعكس واقعها، ولغتها، وتاريخها، ضمن الإطار الوطني العام.
- من التعليم الطبقي إلى التعليم العادل
يُعاد توزيع الموارد التعليمية على أساس العدالة،
– فمدارس الريف مثل مدارس العاصمة،
– وحقوق الأطفال ذوي الإعاقة تُصان،
– والتعليم المبكر يُفعَّل،
– والانقطاع المدرسي يُواجه بسياسات دعم ومرافقة لا بعقوبات.
ثالثًا: السياسات التنفيذية للتعليم السيادي–التحرري
- إصدار “الميثاق الوطني للتعليم العادل والمحرِّر“
وثيقة تأسيسية تتبناها الدولة كجزء من العقد الاجتماعي الجديد
تنص على:
حق التعليم المجاني والعادل
اعتبار التعليم أولوية سيادية لا خدمية
رفض التلقين والتمييز
دمج تعليم المواطنة والتفكير النقدي في كل المراحل
- إصلاح شامل للمناهج
إزالة كل المواد التي تمجّد السلطة أو تفرض سردية واحدة
إدراج مواد حول حقوق الإنسان، العدالة، التعدد، الفلسفة، الاقتصاد المدني، الثقافة السورية المتنوعة
بناء سردية وطنية غير مؤدلجة تعكس التعدد والتجربة الجماعية
- تأهيل المعلم وتمكينه
رفع أجور المعلمين بما يليق بكرامتهم ودورهم
إطلاق برامج تدريب مستمرة على المنهج النقدي والتربوي الجديد
حمايتهم من التسييس أو الوصاية الإدارية القمعية
ضمان مشاركتهم في تطوير المناهج وصياغة السياسات
- لامركزية التعليم وربط المدرسة بالمجتمع
تمكين المجالس المحلية من إدارة المدارس الحكومية
إشراك أولياء الأمور والمجتمع المحلي في القرارات
إدخال أساليب التعليم المفتوح والرقمي والمجتمعي
دعم المبادرات التعليمية التشاركية والبديلة في المناطق المحرومة
- تعزيز التعليم المهني والإنتاجي
إعادة تأسيس منظومة التعليم المهني كمسار محترم لا ثانوي
ربطه بسوق العمل وخطط التنمية
تقديم حوافز مالية واجتماعية للمسجلين فيه
تحويله إلى أداة لبناء الاقتصاد المحلي والتمكين الذاتي
خاتمة تأسيسية
لا نريد تعليمًا يُخرّج موظفين يملأون الدوائر، بل مواطنين يملكون وعيهم، ويخترقون الصمت، ويعيدون إنتاج المعنى.
لا نريد صفوفًا تُعيد ما يُملى، بل عقولًا تُصوغ ما يُفكّر فيه.
ولا نريد شهادة تُمنح، بل كرامة تُبنى، وثقة تُزرع، وأفق يُفتح.
في سوريا الجديدة، المدرسة هي أول ساحة للسيادة، وأول معمل للنهضة، وأول مكان يُولد فيه المواطن لا الرعية.
ومنها نبدأ، كي لا يُولد الاستبداد مجددًا، لا في الكتب، ولا في الصفوف، ولا في العقول.