web analytics
القسم السادس – الباب الثاني

الفصل الرابع عشر هندسة منظومة إعادة الإعمار المستدام

من العشوائية إلى البناء المنظم

تمهيد عام

الإعمار ليس مجرد إعادة بناء الجدران المهدمة أو البنى التحتية المتآكلة، بل هو إعادة بناء مجتمع بأسره: قيمه، مؤسساته، علاقاته، اقتصاده، وإرادته الوطنية.

وفي الحالة السورية تحديدًا، فإن الإعمار لا يمكن أن يكون مجرد مشروع هندسي أو اقتصادي تقني، بل يجب أن يكون مشروعًا وطنيًا–اجتماعيًا–سياديًا، يراعي الجراح العميقة التي خلفتها الحرب، ويحمل في طياته بذور المستقبل لا بذور إعادة إنتاج الخراب.

من هنا، تقتضي الضرورة أن نُهندس منظومة متكاملة لإعادة الإعمار، لا كعملية منفصلة عن مشروع النهضة، بل كامتداد عضوي له، وكواحدة من ركائز تأسيس سوريا الجديدة، القادرة على أن تكون أكثر من مجرد كيان ناجٍ من الحرب: دولة ذات رسالة وقيمة وفاعلية.

أولًا: تشريح أخطاء الإعمار التقليدي لتفاديها

قبل أن نخطط للمستقبل، علينا أن نفهم مكامن الخلل في نماذج الإعمار التي فشلت في أماكن أخرى، ومنها دروس مستفادة من تجارب العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها:

1. الإعمار بوصفه مشروعًا تجاريًا لا وطنيًا

عندما يُختزل الإعمار إلى عقود مقاولات، دون مشروع وطني، يتحول إلى مصدر جديد للفساد والنهب.

يغيب الإنسان السوري عن أولويات التخطيط، لصالح الربح السريع.

2. غياب التخطيط الاستراتيجي

إعادة بناء عشوائية للمدن والقرى دون رؤية عمرانية–اجتماعية متكاملة.

التركيز على المظهر دون معالجة المشكلات البنيوية (العشوائيات، الفقر، البطالة، الانقسامات).

3. الإقصاء الشعبي

تنفيذ مشاريع فوقية دون إشراك المجتمعات المحلية.

فرض أنماط إعمار لا تعبر عن هوية الناس ولا احتياجاتهم.

4. الارتهان الخارجي

رهن قرار الإعمار للشروط السياسية والمالية للدول المانحة أو القوى المتدخلة.

تحويل الإعمار إلى أداة للابتزاز السياسي أو الاقتصادي.

ثانيًا: المبادئ الحاكمة لمنظومة الإعمار في مشروع النهضة

بناءً على الدروس السابقة، نضع المبادئ التالية كمرتكزات لهندسة الإعمار:

الإعمار فعل سيادي وطني: لا يخضع لإملاءات أو مصالح خارجية.

الإعمار عملية اجتماعية شاملة: تعالج الإنسان قبل الحجر.

الإعمار أداة عدالة تصحيحية: تعيد الاعتبار إلى المناطق والمجتمعات الأكثر تضررًا وتهميشًا.

الإعمار عملية مستدامة: تؤسس لاقتصاد مستدام، وبنية تحتية ذكية ومرنة، لا لهشاشة متجددة.

الإعمار فرصة لإعادة بناء الهوية الوطنية: عبر الفضاءات العامة، والمعمار، وإعادة ربط المجتمعات معًا.

ثالثًا: المحاور الأساسية لمنظومة الإعمار

1. التخطيط العمراني الوطني

وضع مخطط عمراني استراتيجي متكامل لسوريا لمدة 25–30 سنة.

إعادة تنظيم المدن والقرى لتفكيك العشوائيات وإعادة توزيع السكان بطريقة مستدامة.

إنشاء مدن جديدة تستجيب للضرورات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

2. إعادة الإعمار الاقتصادي

ربط مشاريع الإعمار بخلق فرص عمل واسعة للسوريين، لا بجلب شركات أجنبية فقط.

تحفيز الصناعات الوطنية المرتبطة بالبناء (الاسمنت، الحديد، الطاقة المتجددة).

دعم المقاولات المحلية الصغيرة والمتوسطة، لضمان توزيع الفائدة على أوسع نطاق.

3. إعادة الإعمار الاجتماعي

توفير مساكن لائقة للنازحين والمهجرين قبل أي مشاريع ضخمة ترفيهية أو رمزية.

إعادة بناء المدارس والمراكز الصحية أولًا لضمان عودة الحياة المجتمعية.

إطلاق برامج لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للمجتمعات المتضررة.

4. إعادة الإعمار المؤسسي

إعادة بناء المؤسسات الحكومية على أسس الشفافية والكفاءة.

تطوير أنظمة الإدارة المحلية لتمكين المجتمعات من إدارة شؤونها.

5. إعادة الإعمار البيئي

اعتماد معايير البناء الأخضر وتقنيات الطاقة النظيفة في جميع مشاريع الإعمار.

إعادة تشجير المناطق المدمرة وتحسين إدارة الموارد الطبيعية.

رابعًا: آليات تنفيذ منظومة الإعمار

1. إنشاء الهيئة الوطنية العليا للإعمار

هيئة مستقلة ذات طابع سيادي، تخضع للرقابة البرلمانية والقضائية.

تضم خبراء سوريين من الداخل والخارج، مع تمثيل مجتمعي واسع.

2. صياغة “الميثاق الوطني للإعمار

وثيقة وطنية تُحدد المبادئ والأولويات والمعايير الأخلاقية والقانونية للإعمار.

تلزم جميع الفاعلين (داخليين وخارجيين) باحترام الرؤية السورية للإعمار.

3. التمويل السيادي

الاعتماد أساسًا على الموارد الوطنية (الضرائب، استثمارات القطاع الخاص، أصول الدولة).

قبول التمويل الخارجي بشروط وطنية صارمة، تضمن السيادة وعدم الإملاء.

4. الشفافية والمحاسبة

نشر جميع العقود والصفقات علنًا.

آلية رقابة مجتمعية وإعلامية فاعلة لمنع الفساد وإهدار المال العام.

خامسًا: أولويات إعادة الإعمار المرحلية

المرحلة الأولى (1–3 سنوات)

توفير مساكن طارئة وكريمة للنازحين.

إعادة تشغيل المرافق الحيوية: الماء، الكهرباء، الصحة، التعليم.

إزالة الأنقاض بشكل علمي ومنظم، مع خطط لإعادة تدويرها.

المرحلة الثانية (4–7 سنوات)

بناء مدن وأحياء نموذجية جديدة تعتمد على معايير الاستدامة.

إعادة إحياء القطاعات الاقتصادية المحلية المرتبطة بالبناء والإعمار.

دعم المجتمعات المحلية في إدارة عملية الإعمار بنفسها.

المرحلة الثالثة (8–15 سنة)

تطوير البنى التحتية الاستراتيجية (النقل، الطاقة، الاتصالات).

إعادة تشكيل المشهد العمراني السوري ليعبر عن هوية وطنية حديثة ومتصالحة.

إنهاء الاعتماد على المساعدات الخارجية بشكل كامل.

سادسًا: النتائج المنتظرة

استعادة الوحدة الوطنية عبر إعادة دمج المناطق المتضررة في النسيج السوري.

بناء مدن وقرى حديثة ومستدامة، توفر بيئة معيشية أفضل من ما قبل الحرب.

تحفيز النمو الاقتصادي الوطني عبر دفع عجلة الإنتاج وفرص العمل.

ترسيخ ثقافة الشفافية والمشاركة الشعبية في السياسات العامة.

بهذا، لا يكون الإعمار مجرد ترميم، بل فعل تأسيس لنهضة وطنية شاملة.