web analytics
القسم الخامس

الفصل الرابع عشر الهوية الوطنية والدولة

نحو تأسيس عقد المواطنة الحديثة

مقدمة الفصل:

لقد أثبتت التجربة السورية أن بناء الدولة لا يكفي وحده لبناء أمة.

دون هوية وطنية حقيقية، تصبح مؤسسات الدولة أجسادًا خاوية، يمكن أن تتحول بسهولة إلى أدوات قهر أو عصبيات مقنّعة.

لهذا، فإن مشروع النهضة السورية لا يهدف فقط إلى إصلاح الهياكل السياسية أو إعادة توزيع السلطات،
بل يسعى إلى إعادة تأسيس العلاقة بين الهوية والدولة،
بما يحول دون ارتداد السوريين إلى هوياتهم الأولية عند كل أزمة.

إن تأسيس هوية وطنية حديثة لا يعني إذابة التنوع،
بل يعني صياغة رابطة مدنية تجمع الجميع،
تحمي التعدد، وتنظمه، وتجعل من المواطن الفرد لا الطائفة أو العشيرة أو الإقليم، الوحدة الأساسية للسيادة والحقوق.

أولًا – أزمة العلاقة بين الهوية والدولة في التجربة السورية

تاريخ الدولة السورية الحديثة اتسم بانفصام خطير بين:

دولة مفروضة من فوق:
تأسست بتقسيمات استعمارية لم تعبّر عن إرادة حرة للسكان.

مجتمع منقسم أفقيًا:
يعيش تحت هويات فرعية طائفية، إثنية، عشائرية، مناطقية.

سلطات استخدمت الدولة لتعميق الانقسامات:
فمارست التمييز، والتهميش، والزبائنية، باسم الوطنية المزعومة.

كانت النتيجة:

ضعف الشعور بالمواطنة الجامعة.

تفكك الولاءات نحو الطائفة أو العشيرة أو القومية الضيقة.

هشاشة الانتماء للدولة ككيان مشترك.

كل ذلك ظهر بوضوح حين انفجرت الأزمة السورية:
فاندفعت الجماعات تدافع عن “ذاتها” لا عن “الوطن”، لأن الوطن لم يتحول يومًا إلى عقد حقيقي بين الأفراد.

ثانيًا – الدولة الحديثة كضامن للهوية الوطنية الجامعة

في المجتمعات الحديثة، الدولة ليست مجرد جهاز حكم.
إنها:

إطار قانوني وأخلاقي جامع.

أداة دمج مدني بين المختلفين.

ضامن لتعدد الهويات ضمن عقد المواطنة.

لا تقوم الدولة المدنية الحديثة على قسر الهويات الفرعية ولا على إنكارها،

بل على نقل رابطة الانتماء من الولاء للدم أو المذهب أو العرق، إلى الولاء للقانون المشترك، والمصلحة الوطنية العامة.

وبهذا المعنى:

تصون الدولة حرية الانتماء الديني والثقافي.

لكنها تحصر الانتماء السياسي في رابطة المواطنة الحرة المتساوية.

وتضمن للجميع حقوقهم لا كمجموعات متنازعة، بل كأفراد متساوين.

ثالثًا – ملامح العلاقة الجديدة بين الهوية والدولة في سوريا النهضة

  1. المواطنة لا الجماعة:

لا اعتبار للهوية الطائفية أو العرقية أو المناطقية في تحديد الحقوق السياسية.

كل مواطن يتمتع بكامل الحقوق بناءً على كونه فردًا في العقد الوطني، لا عضوًا في جماعة.

  1. التعددية الثقافية لا التعددية السيادية:

الاعتراف بحق كل مكون ثقافي في التعبير عن خصوصيته، دون أن يتحول إلى كيان سياسي موازٍ للدولة.

  1. حياد الدولة:

الدولة لا تعبر عن دين، ولا طائفة، ولا قومية واحدة.

الدولة تعبر عن عقد جامع يحمي حرية الجميع في التعبير عن هوياتهم دون أن يفرضها كسلطة.

  1. سيادة القانون فوق الولاءات الفرعية:

القانون هو الرابط الأعلى الذي يحتكم إليه الجميع.

لا حصانة لأي جماعة فوق القانون، ولا انتقاص لحقوق أي جماعة خارجه.

رابعًا – التحديات أمام تأسيس العلاقة الجديدة

  1. المقاومة المجتمعية للهويات الأولية:

استمرار استثمار الطوائف والعشائر في حماية أتباعها قد يعيق الانتقال إلى الولاء المدني.

  1. إرث القهر والانقسام:

المآسي التي عاشها السوريون قد تجعل من الصعب بناء ثقة فورية بين المكونات المختلفة.

  1. التدخلات الإقليمية:

القوى الإقليمية تغذي الانقسامات للحفاظ على نفوذها، مما يصعب مهمة بناء رابطة وطنية فوقها.

خامسًا – الاستراتيجيات العملية لإعادة صياغة العلاقة بين الهوية والدولة

  1. إصلاح عميق للدستور:

نصوص دستورية واضحة تفصل بين الهوية الدينية/العرقية وبين الانتماء السياسي.

ضمان مساواة الأفراد دون تمييز أو تفضيل جماعي.

  1. التربية الوطنية المدنية:

إعادة صياغة المناهج التعليمية لبناء وعي مدني وطني يتجاوز الولاءات الطائفية والعرقية.

  1. عدالة انتقالية تعترف ولا تثأر:

معالجة مظالم الماضي مع ضمان عدم استخدام العدالة كأداة انتقام جماعي.

  1. إعادة بناء الفضاء العام:

إنشاء مؤسسات إعلامية وثقافية مستقلة تعزز الخطاب الوطني المدني.

دعم الفنون والآداب التي تعبر عن الهوية السورية الجامعة بتنوعها.

  1. حماية التعددية بدون تفكيك الدولة:

سن قوانين تحمي حرية التعبير الثقافي واللغوي دون أن تسمح بقيام كيانات موازية تهدد وحدة الدولة.

سادسًا – الرؤية النهائية: الدولة كفضاء العقد لا كهُوية قسرية

مشروع النهضة لا يسعى إلى دولة تحكم بهوية واحدة، ولا إلى “تذويب” الهويات الطبيعية للناس.
بل يسعى إلى دولة:

تحترم كل الهويات الثقافية والاجتماعية.

لكنها تقننها ضمن إطار مدني جامع يقوم على الحرية والمساواة.

تجعل من الانتماء للوطن، لا للهويات الفرعية، معيارًا للحق السياسي.

وبهذا الفهم، يصبح الفرد حرًا في انتمائه الثقافي أو الديني،
ولكنه في المجال العام، لا يُعامل كعضو في طائفة أو قومية، بل كمواطن كامل الحقوق والواجبات.

خاتمة الفصل:

إن تأسيس علاقة جديدة بين الهوية والدولة، يقوم على المواطنة الحرة والمساواة الكاملة،
هو الشرط الجوهري لبناء سوريا الجديدة.

دولة النهضة لا تلغي الهويات، لكنها تعيد ترتيبها:

في المجال الخاص، حرية كاملة للتعبير عن التنوع.

في المجال العام، وحدة كاملة تحت راية العقد الوطني المشترك.

بهذا التوازن الدقيق، يمكن للسوريين أن يخرجوا من لعنة الطائفية والعشائرية والعرقية،
ويبنوا وطنًا يتسع للجميع، وطنًا لا يطلب من أحد أن يتخلى عن ذاته، ولا يسمح لأحد بأن يحتكر الوطن باسمه.