القسم الأول
الفصل الرابع عشر الاقتصاد في سوريا
من الدولة الريعية إلى اقتصاد الفساد والميليشيات
مدخل فلسفي–سياسي:
الاقتصاد ليس مجرد إنتاج وتوزيع واستهلاك،
بل هو مرآة للعقد السياسي، وامتداد للصراع على السلطة والثروة.
في سوريا، لم يُصمَّم الاقتصاد لخدمة الناس، بل لضبطهم عبر الاحتياج،
وتكريس الطاعة كشرط للعيش.بل لتكريس الطاعة،
ولم يكن يومًا حياديًا،
بل خُطِّط له كي يكون أداة لإدامة السيطرة لا أداة للنهضة.
ولهذا، فإن تشريح الاقتصاد السوري لا يجب أن يبدأ من “الأرقام”،
بل من السؤال:
كيف صُمِّم هذا الاقتصاد ليُخضِع المجتمع؟ وكيف انتهى بنا إلى ميليشيات تحتكر الخبز والنفط والرصاص؟
أولًا: من الريعية الاشتراكية إلى رأسمالية المحاسيب – التحول المقنّع نحو التبعية
الاقتصاد في عهد الأسد الأب:
- تبنّى خطابًا اشتراكيًا–شعبويًا،
- لكنه لم يُؤسس لتنمية فعلية، بل لإعادة توزيع مُسيّس للموارد،
- اعتمد على:
-
- تأميم شمولي للقطاع الخاص،
- توظيف الريع النفطي والزراعي كوسيلة تمويل للسلطة،المعونات السوفييتية،
- استجلاب المعونات السوفييتية بوصفها موردًا خارجيًا للاستقرار لا للتنمية.”
- تقنين الاستهلاك،
- وضبط السوق عبر البيروقراطية الأمنية.
لكن هذه السياسة:
- دمّرت روح المبادرة،
- أفقدت المجتمع ثقته بجدوى العمل،
- كرّست الفساد كأداة للنفاذ،
- وأنتجت طبقة مستفيدة مرتبطة بالأجهزة،
- وحرمت الريف من التنمية الحقيقية رغم شعارات “العدالة الاجتماعية”.
التحول النيوليبرالي المزيّف في عهد الأسد الابن:
- بداية من عام 2000، رُفعت شعارات “الانفتاح الاقتصادي، كجزء من خطاب التحديث الشكلي.
- لكن الواقع كان “رأسمالية مشوّهة” بدون مؤسسات، بدون قانون، بدون إنتاج.
النتيجة:
- تحوّل الاقتصاد إلى شبكة مافيوية،
- تزاوج فيها المال مع الأمن،
- وظهرت طبقة رجال أعمال السلطة:
-
- رامي مخلوف،
- محمد حمشو،
- آخرون يملكون كل شيء ولا ينتجون شيئًا.
- تم القضاء على القطاع العام دون بناء قطاع خاص منتج،
- وارتفع الفقر، وانهارت الطبقة الوسطى،
- وازداد التفاوت الطبقي بشكل كارثي.
ثانيًا: الاقتصاد كأداة ولاء – لا مكان لغير المطيع
في سوريا، لم يكن النجاح الاقتصادي ناتجًا عن الجدارة،
بل عن القرب من السلطة.
- التعيينات، الرخص، الصفقات، القروض، المناقصات…
- كلها أدوات لتوزيع الولاء، لا لبناء تنمية.
الفلاح الذي لا يصوّت، يُحرم من السماد.
الصناعي الذي لا يدفع “نسبة” يُغلق مصنعه.
التاجر غير المرتبط بـ”شخص ما”، يُقصى من السوق.
وهكذا، تحوّل الاقتصاد إلى أداة ضبط اجتماعي،
تمارس من خلالها الدولة نوعًا من العقاب أو المكافأة،
وبالتالي، لم يكن الفساد انحرافًا عن النظام…
بل هو جزء من النظام.
ثالثًا: الاقتصاد في زمن الحرب – من الدولة إلى الميليشيا
مع انطلاق الثورة، وسحق المجتمع،
انهار الاقتصاد الرسمي،
وتحوّل المشهد إلى:
- اقتصاد حواجز،
- ضرائب على الحليب والدواء،
- تهريب عبر الميليشيات،
- اقتصاد تهديم وإعادة إعمار مشروط،
- تحكم إيراني بالموارد،
- استثمار روسي عبر الامتيازات طويلة الأمد،
- ومجتمع مقسوم إلى:
-
- مناطق تتلقى معونات،
- مناطق تحت الحصار،
- ومناطق تحت رحمة أمراء الحرب.
وهكذا، صرنا أمام اقتصاد ميليشيوي لا يعترف بالدولة، بل بالسلاح، ولا ينتج القيمة، بل يقتات على الخراب.
رابعًا: من ترييف الاقتصاد إلى تمزيقه – ضرب المدن والريف معًا
- دُمّرت البنية التحتية في المدن الثائرة (حمص، حلب، دير الزور…).
- جُوّع الريف عقابًا على تمرده.
- تم تهجير مئات الآلاف من العمّال والفلاحين.
- نُقلت مراكز الإنتاج إلى يد المتنفذين،
- وصار التهريب هو “القطاع الأكثر نشاطًا”،
- وأصبح العيش نفسه عملية تفاوض مع سلطة ما.
خامسًا: آثار هذا الاقتصاد على الإنسان والمجتمع
- قتل مفهوم العمل الشريف.
- سحق المبادرة.
- أذلّ المواطن وجعل الكفاف غاية.
- عمّق الفوارق الطبقية والطائفية.
- زاد تبعية سوريا للخارج.
- فجّر ما تبقّى من علاقة الثقة، وسوّى العقد الاجتماعي بالتراب، محوّلاً الدولة إلى خصم اقتصادي لا شريك تنموي.
سادسًا: الاقتصاد كشرط للنهضة – من اقتصاد الغلبة إلى اقتصاد الحياة
لا يمكن بناء أي مشروع نهضة في سوريا:
- دون تفكيك اقتصاد الولاء،
- دون اجتثاث المافيات،
- دون إعادة تعريف الوظيفة الاقتصادية للدولة،
- ودون استعادة الثقة بأن الجهد يُثمر،
وأن السوق ليس ساحة اقتتال طبقي أو طائفي، بل مساحة للتكامل والإنتاج والتوزيع العادل.
ولهذا، فإن الاقتصاد في مشروع النهضة يجب أن يُعاد تأسيسه على:
- إنتاج حقيقي، لا ريعية.
- شفافية، لا احتكار.
- مؤسسات مستقلة، لا شبكات ولاء.
- عدالة توزيعية، لا فوارق مروّعة.
- توزيع عادل للتنمية بين الريف والمدينة.
- استقلال القرار الاقتصادي عن أي محور خارجي.
خاتمة الفصل: الاقتصاد ليس هامشًا… بل هو الجبهة الأولى للتحرر
لن ينهض بلد لا يملك خبزه، ولا ماءه، ولا قراره.
ولن تُبنى كرامة في ظل اقتصاد يُعيد إنتاج المذلّة.
الاقتصاد في مشروع النهضة ليس تقنية،
بل هو أداة للكرامة،
ومجال للعدالة،
وشرط للسيادة.
وما لم يُستعد للاقتصاد دوره بوصفه مجالًا سياديًا للحياة،
فستبقى الدولة بلا استقلال، والمواطن بلا أمل.
وما لم نُعد بناء الاقتصاد على أساس إنتاجي–اجتماعي–سيادي،
فسنكون بصدد إعادة إنتاج دولة عاجزة،
ومجتمع جائع…
وسلطة تنتظر أول صفقة جديدة كي تعود.