القسم الثاني عشر – الباب الأول
الفصل الاول هندسة منظومة العلاقات الخارجية
من الارتهان إلى التوازن السيادي
مقدمة:
في عالم تتشابك فيه المصالح الدولية وتتصارع فيه القوى على بسط النفوذ، تصبح العلاقات الخارجية لأي دولة مكونًا جوهريًا من مكونات سيادتها وقوتها الداخلية.
ولا يكتمل مشروع النهضة السورية دون إعادة بناء منظومة العلاقات الخارجية على أسس جديدة، تقطع مع تاريخ الارتهان والاستتباع، وتؤسس لسياسة خارجية متوازنة ومستقلة تخدم المصالح الوطنية أولًا، وتستند إلى مبادئ ثابتة وليس إلى نزوات آنية أو تبعية عمياء.
لقد عانت سوريا لعقود من علاقات خارجية تحكمها الإملاءات بدل الشراكات، والارتهان السياسي والاقتصادي بدل التوازن السيادي، مما جعلها ساحةً لتصفية الحسابات لا طرفًا فاعلًا مستقلًا.
لذلك، من الضروري هندسة منظومة خارجية جديدة تواكب مشروع بناء الدولة السورية الحديثة.
أولا: تشريح واقع العلاقات الخارجية السورية قبل مشروع النهضة
أ. ارتهان السيادة للخارج
تحولت سوريا في فترات طويلة إلى تابع لأنظمة إقليمية أو دولية (الاتحاد السوفييتي سابقًا، إيران لاحقًا)، بحيث تم توجيه سياساتها الخارجية والداخلية بناءً على مصالح هذه القوى لا مصالحها الذاتية.
ب. الاستخدام الأداتي للقضية الفلسطينية
تم استغلال شعار “دعم المقاومة” لتبرير سياسات القمع الداخلي وتجميد الحياة السياسية، دون تحقيق أي إنجاز فعلي على صعيد القضية الفلسطينية نفسها.
ج. العزلة الإقليمية والدولية
نتيجة للسياسات المتطرفة والاصطفافات الأحادية، دخلت سوريا في عزلة خانقة أثرت سلبًا على اقتصادها ومكانتها، وزادت من هشاشتها الداخلية.
د. غياب الدبلوماسية الفاعلة
تم اختزال الدبلوماسية السورية في وظيفة تبريرية لقرارات النظام بدل أن تكون أداة لتعزيز مصالح البلاد وتنويع شراكاتها وتحقيق التوازن في علاقاتها الدولية.
ثانيا: المبادئ التأسيسية لمنظومة العلاقات الخارجية الجديدة
السيادة أولًا:
أي علاقة خارجية يجب أن تحفظ السيادة الوطنية ولا تمس باستقلال القرار السوري.
التوازن لا الانحياز:
الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع القوى الدولية والإقليمية بما يخدم المصالح السورية، دون الارتهان لطرف أو الدخول في محاور استقطاب.
البراغماتية الواعية:
الانفتاح على كل الشراكات المفيدة لسوريا، وفق رؤية استراتيجية طويلة المدى، دون الانزلاق وراء الوعود الآنية أو التحالفات المصلحية العابرة.
الدبلوماسية النشطة:
التحول من الدبلوماسية الدفاعية التبريرية إلى دبلوماسية المبادرة، التأثير، وصناعة الفرص.
احترام القانون الدولي:
الالتزام بالقوانين والمعاهدات الدولية بما يعزز الشرعية الدولية لسوريا الجديدة.
ربط السياسة الخارجية بالتنمية الوطنية:
يجب أن تكون العلاقات الخارجية أداة لدعم الاقتصاد، والتعليم، والصحة، والتكنولوجيا، وليس مجرد علاقات شكلية أو أيديولوجية.
ثالثا: مرتكزات استراتيجية للعلاقات الخارجية السورية
أ. الانطلاق من المصلحة الوطنية العليا
لا تحالف ثابت ولا عداء دائم، بل مصالح دائمة تحكم السياسة الخارجية.
ب. بناء شراكات استراتيجية ذكية
شراكات مع الدول الكبرى والإقليمية تُبنى على أساس تبادل المصالح، مع تجنب الوقوع في التبعية الاقتصادية أو العسكرية لأي طرف.
ج. إعادة تعريف التحالفات الإقليمية
بناء علاقات تعاون إقليمي على قاعدة المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة، وليس الاصطفافات الإيديولوجية أو الطائفية.
د. تصحيح العلاقة مع القضية الفلسطينية
دعم حقوق الشعب الفلسطيني وفق قرارات الشرعية الدولية، مع رفض استخدام القضية كذريعة لأي نوع من القمع الداخلي أو السياسات المغامرة.
هـ. الانفتاح المدروس على المنظمات الدولية
تعزيز الانخراط السوري في المنظمات الدولية الإنسانية والاقتصادية والسياسية لتعزيز الحضور الدولي واستقطاب الدعم لمشاريع التنمية.
رابعا: آليات بناء العلاقات الخارجية الجديدة
أ. إصلاح المؤسسة الدبلوماسية
إعادة هيكلة وزارة الخارجية لتكون مؤسسة مهنية حقيقية، مع تعزيز قدرات الدبلوماسيين، واعتماد الكفاءة والخبرة بدل الولاء السياسي.
ب. إطلاق خطة دبلوماسية شاملة
وضع خطة وطنية متكاملة للعلاقات الخارجية تتضمن أهدافًا استراتيجية واضحة وخارطة تحرك موزعة على عدة سنوات.
ج. إنشاء وحدات دراسات استراتيجية متخصصة
تأسيس مراكز بحثية مرتبطة بصناع القرار، تقدم دراسات وتحليلات معمقة لدعم رسم السياسة الخارجية بناءً على المعطيات الواقعية.
د. تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية والثقافية
تحويل السفارات من مجرد مواقع بروتوكولية إلى أدوات فاعلة لجذب الاستثمارات، وفتح الأسواق، ونشر الثقافة السورية الإيجابية.
هـ. تفعيل الدبلوماسية الشعبية
الاستفادة من الطاقات السورية في الخارج (مغتربين، أكاديميين، رجال أعمال) في دعم المشروع الوطني عبر مبادرات موازية للتحرك الرسمي.
خامسا: . معالم السياسة الخارجية السورية الجديدة
سوريا ليست تابعًا ولا بوابة لأحد:
بلد حر، مستقل، متفاعل بإيجابية مع محيطه والعالم.
سوريا لا تنتمي إلى محاور الاستقطاب العقيم:
مصالحها تحدد تحالفاتها، لا الأيديولوجيات أو الضغائن القديمة.
سوريا تبني ولا تهدم:
تبحث عن الاستقرار الإقليمي والدولي، وتعمل على صناعة السلام العادل لا تصدير الأزمات.
سوريا الجديدة تؤمن بالدبلوماسية الوقائية:
تحل خلافاتها عبر القنوات الدبلوماسية قبل الانزلاق إلى التصعيد أو النزاعات.
خاتمة الفصل
إن هندسة منظومة العلاقات الخارجية ليست مجرد مهمة فنية، بل معركة وجودية لإعادة موقع سوريا في العالم.
إن الانتقال من ارتهان القرار إلى سيادة القرار هو حجر الزاوية في بناء الدولة الجديدة، وهو أحد أبرز تجليات مشروع النهضة الذي نؤمن به.
ومثلما أن بناء الداخل ضرورة قصوى، فإن رسم ملامح الخارج بالشكل الصحيح ليس أقل أهمية، لأن الداخل والخارج وجهان لعملة واحدة في مسيرة النهوض الوطني الشامل.