web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الأول

الفصل الثاني الرقابة المجتمعية

من المراقبة الشعبية إلى شراكة القرار

مقدمة الفصل

في الدولة التسلطية، تتحول الرقابة الشعبية إلى تهمة، ويُعامل المواطن على أنه تهديد إن سأل أو اعترض أو راقب.

 أما في الدولة السيادية، فالمواطن هو الحارس الأول للشرعية، والمراقب الأعلى لسلوك السلطة، والمشارك في صناعة القرار لا المتلقي له.

من هنا، لا تكون الرقابة المجتمعية ترفًا ديمقراطيًا أو هامشًا سياسيًا، بل جزءًا أصيلًا من البنية المؤسسية لمشروع النهضة، وهي الأداة التي تحصن الدولة من الانغلاق والانحراف عبر إعادة توجيهها في كل لحظة.

لا يمكن الحديث عن مشروع نهضوي حقيقي دون تفعيل الرقابة المجتمعية بوصفها تجسيدًا لوعي السيادة الشعبية، وانتقالًا من العلاقة الرأسية بين الحاكم والمحكوم إلى علاقة شراكة واعية بين الطرفين.

أولًا: من ثقافة الشك إلى ثقافة الشراكة

الرقابة المجتمعية ليست حالة عداء مع المؤسسات، بل حالة تعاقد رقابي معها. وهي تبدأ من تجاوز ثقافة “التشكيك السلبي” إلى عقلية “الرقابة المشاركة”، أي:

اعتبار المواطن شريكًا في الإنجاز لا متربصًا به.

تمكين المواطن من الوصول إلى المعلومات التي تسمح له بالرقابة الواعية.

تقنين أدوات الاعتراض، والنقد، والتصويب ضمن أطر قانونية مؤسسية.

بهذا تنتقل الدولة من مرحلة احتكار السلطة إلى مرحلة شراكة القرار، ويصبح النقد المجتمعي موردًا للتصحيح لا خطرًا يجب قمعه.

ثانيًا: البنية القانونية للرقابة المجتمعية

لكي تصبح الرقابة المجتمعية أداة فعالة لا مجرد شعار، لا بد من:

سنّ قوانين تضمن حق المواطن في الوصول إلى المعلومات، وخاصة ما يتعلق بالإنفاق العام، الخطط التنفيذية، المناقصات، ومشاريع البنية التحتية.

حماية المبلغين عن الفساد والمخالفات، وضمان عدم تعرضهم لأي انتقام إداري أو أمني.

فتح قنوات رسمية لتقديم الشكاوى والمقترحات، وربطها بمؤسسات ملزمة بالرد خلال فترات زمنية محددة.

يجب أن تنبع هذه القوانين من فلسفة احترام المواطن كفاعل سيادي، لا كمجرد تابع يجب احتواؤه أو إسكاته.

ثالثًا: أدوات الرقابة المجتمعية – من الملاحظة إلى الفعل

تُفعّل الرقابة المجتمعية من خلال أدوات عدة، أبرزها:

المجالس المحلية المنتخبة، التي تنقل صوت المجتمع من القاعدة إلى هياكل الدولة.

الاستبيانات الوطنية التي تُنفّذ بشكل دوري لقياس رضا الناس عن الخدمات والسياسات.

المنصات الرقمية التي تسمح بتقديم بلاغات، تقييم أداء المؤسسات، وإرسال شكاوى مباشرة.

مبادرات الرقابة الشعبية المنظمة مثل مراقبة المدارس، البلديات، المستشفيات، وغيرها.

هذه الأدوات لا تهدف فقط إلى كشف الخلل، بل إلى بناء علاقة تفاعلية مستمرة بين المجتمع والإدارة العامة.

رابعًا: دور المنظمات المدنية – من المراقب الخارجي إلى الشريك المؤسساتي

يُمنح المجتمع المدني دورًا مركزيًا في تفعيل الرقابة، لكن بشرط تجاوز دوره التقليدي بوصفه صوتًا احتجاجيًا فقط. ويشمل ذلك:

إشراك المنظمات المدنية في لجان تقييم المشاريع العامة.

دعم المبادرات المجتمعية الرقابية في مجالات التعليم، الصحة، البيئة، والعدالة.

ضمان استقلالية هذه المنظمات ماليًا وإداريًا لتكون أدوات رقابية حقيقية غير مرتهنة لأي جهة رسمية.

بهذا تُصبح منظمات المجتمع المدني فاعلًا في حماية المصلحة العامة، لا مجرد صوت معارض على الهامش.

خامسًا: الإعلام كأداة رقابة شعبية

للإعلام المستقل دور لا غنى عنه في تعزيز الرقابة المجتمعية، شريطة أن يُفعل ضمن بيئة حرة مسؤولة. ويشمل ذلك:

تخصيص برامج إعلامية لتقييم الأداء الحكومي بشكل دوري وموضوعي.

فتح المجال أمام التحقيقات الاستقصائية حول الفساد والتقصير.

تفعيل الصحافة المحلية كأداة رقابة لصيقة بالناس وقضاياهم.

الإعلام هنا لا يُراد له أن يكون صدى للسلطة، بل مرآة للمجتمع، وأداة لكشف الحقيقة، وتعزيز الشفافية.

سادسًا: من الرقابة إلى الشراكة – تفعيل مبدأ القرار المشترك

الرقابة المجتمعية لا تكتفي بنقد القرار بعد صدوره، بل تسعى إلى المشاركة في صياغته. ولهذا:

تُنشأ مجالس محلية وجماهيرية تُشارك في صياغة السياسات العامة على مستوى البلديات والمقاطعات.

تُنظّم جلسات استماع شعبية في القضايا الكبرى قبل اتخاذ القرار النهائي بشأنها.

يُقر مبدأ “السياسات التشاركية” كمبدأ دستوري ملزم في القضايا المصيرية.

بهذه الخطوات، لا يبقى المواطن مجرد مراقب، بل يتحوّل إلى جزء من بنية اتخاذ القرار، ويصبح شريكًا في النجاح والفشل، لا متلقّيًا فقط للنتائج.

خاتمة الفصل

إن الرقابة المجتمعية ليست وظيفة تكميليّة، بل ممارسة سيادية تعيد الاعتبار للمواطن بوصفه الفاعل المركزي في الدولة، وتؤسس لعلاقة جديدة بين المجتمع والدولة تقوم على الشفافية، والمساءلة، والحق في الشراكة. وبهذا، يتعزز جوهر مشروع النهضة الذي يقوم على احترام الإنسان لا بوصفه تابعًا، بل سيّدًا على القرار العام.