web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الأول

الفصل الثالث الرقابة التشريعية

التوازن المؤسسي وحق المساءلة

مقدمة الفصل

في الدول التسلطية، غالبًا ما يُختزل البرلمان إلى هيئة شكلية تُستخدم لتزكية القرارات التنفيذية لا لمحاسبتها، ويتحوّل المشرّعون إلى أدوات تزويق للسلطة بدل أن يكونوا ممثلين حقيقيين لإرادة الناس. أما في مشروع النهضة، فإن الرقابة التشريعية ليست مجرد وظيفة دستورية بل هي ركيزة أساسية من ركائز التوازن المؤسسي، وضمانة جوهرية ضد الانحراف، تُعيد رسم علاقة السلطة التنفيذية بالشعب من خلال مؤسسة نيابية فاعلة.

هذا الفصل يُعيد تعريف البرلمان لا كمشرّع فحسب، بل كهيئة رقابية سيادية مسؤولة عن مساءلة السلطة التنفيذية، ومتابعة أدائها، ورفض أي ميل نحو الاستئثار أو الغموض في صناعة القرار.

أولًا: البرلمان كسلطة سيادية لا كامتداد للسلطة

تقوم الرقابة التشريعية في مشروع النهضة على مبدأ استقلال المؤسسة النيابية عن السلطة التنفيذية، بما يشمل:

امتلاك البرلمان لحق استدعاء ومساءلة أي مسؤول تنفيذي بدون استثناء.

إصدار لجان تحقيق مستقلة بصلاحيات فعلية لمراقبة الأداء الحكومي.

رفض الموازنات أو الخطط التي لا تستوفي المعايير أو تشوبها مؤشرات فساد أو خلل.

منح أعضاء البرلمان حصانة وظيفية حقيقية لحمايتهم من الترهيب أو الانتقام السياسي.

البرلمان هنا لا يُختصر في قاعة تصويت، بل يتحوّل إلى عين المجتمع داخل المؤسسات، وضمير السيادة الشعبية.

ثانيًا: أدوات الرقابة التشريعية – من النص إلى الفعل

تُمارس الرقابة التشريعية عبر منظومة من الأدوات التي يجب أن تُفعل بالكامل دون انتقاص، ومنها:

الأسئلة البرلمانية: وهي حق النائب في توجيه سؤال مكتوب لأي مسؤول حكومي، مع إلزامه بالرد خلال فترة زمنية محددة.

الاستجواب: أي فتح جلسة عامة لمساءلة مسؤول تنفيذي بشأن خلل ما، وقد تُفضي إلى سحب الثقة.

التحقيق البرلماني: عبر لجان خاصة أو دائمة تُشكّل للتحقيق في قضايا فساد أو قصور إداري أو سوء استخدام سلطة.

المراجعة الدورية للموازنات والسياسات: عبر تقارير سنوية إلزامية تُعرض على البرلمان لمناقشتها علنًا.

الرقابة التشريعية على التعيينات العليا: حيث يُشترط موافقة البرلمان على شاغلي المناصب الحساسة في الدولة.

بهذا، تُصبح الرقابة التشريعية ليس فقط أداة ردع، بل أداة تصويب، تحفظ التوازن المؤسسي وتمنع تضخم السلطة التنفيذية.

ثالثًا: استقلالية البرلمان من المال والنفوذ التنفيذي

لكي تكون الرقابة فعالة، يجب تحرير البرلمان من تبعية المال والنفوذ، ويتحقق ذلك عبر:

تخصيص ميزانية مستقلة للبرلمان ضمن الدستور لا تخضع لمزاج الحكومة.

تأسيس جهاز فني داخلي يوفر للنواب المعلومات اللازمة للتقييم الفعلي، وليس فقط الاعتماد على تقارير الحكومة.

حظر ازدواج المناصب بين السلطة التشريعية والتنفيذية إلا في الحالات الدستورية الاستثنائية.

منع أي تدخل أمني أو إداري في عمل النواب أو لجانهم أو قراراتهم.

بهذه الضمانات، تتحول الرقابة التشريعية من واجب صوري إلى سلطة حقيقية.

رابعًا: العلاقة بين البرلمان والمجتمع – رقابة بالنيابة لا احتكار للصوت

لا يمكن للرقابة التشريعية أن تكتمل دون استحضار المجتمع الذي يُفترض أن النواب يمثّلونه، ولهذا:

يجب إلزام البرلمانيين بعقد جلسات استماع دورية مع ناخبيهم لعرض الأداء الحكومي والقرارات السيادية.

فتح المجال لتلقي شكاوى المواطنين وإيصالها مباشرة للسلطة التنفيذية من خلال اللجان المختصة.

نشر تقارير البرلمان الرقابية بشكل علني، وتقديمها بلغة واضحة تسهّل الفهم الشعبي لمجريات الأمور.

هذا لا يُحوّل البرلمان إلى مندوب شعبي فقط، بل إلى قناة مستدامة بين الدولة والمجتمع.

خامسًا: هيئة المساءلة البرلمانية – مؤسسة متخصصة في الرقابة لا في التشريع

ضمن تطوير المنظومة الرقابية، يُقترح تأسيس هيئة خاصة داخل البرلمان، تُعرف بـ”هيئة المساءلة البرلمانية”، تتولى:

الإشراف على تفعيل أدوات الرقابة المختلفة.

دعم لجان التحقيق والتقييم بمعلومات وبيانات مهنية موثوقة.

العمل كجهاز تدقيق وتفتيش داخلي على تنفيذ السياسات العامة التي أقرّها البرلمان.

هذه الهيئة تُشكّل بنية مهنية داخل البرلمان، تُساند النواب وتمنع اختزال الرقابة في المواجهات السياسية فقط.

خاتمة الفصل

الرقابة التشريعية في مشروع النهضة ليست ترفًا قانونيًا، بل ممارسة سيادية أساسية تُجسّد مبدأ أن السلطة لا تفلت من المحاسبة، وأن الدولة لا تُبنى بالأوامر العليا بل بالتوازن المؤسساتي العميق. ولهذا، فإن تفعيل البرلمان كجهاز رقابي، لا تشريعي فقط، يُعد ضمانة كبرى لبقاء المشروع في مساره، وحمايته من الاستبداد الناعم أو الانحراف غير المرئي.