القسم الثالث عشر – الباب الأول
الفصل الرابع السياسة الانتقالية
من شرعية الطوارئ إلى التأسيس المستدام
مقدمة تمهيدية
كل دولة تمر بلحظات مفصلية يكون فيها الانتقال من الانهيار إلى البناء محفوفًا بالمخاطر. لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاضطراب، بل في أن تتحوّل “المرحلة الانتقالية” إلى حالة دائمة، أو أن تُستخدم كذريعة لتأجيل العدالة، أو لاحتكار السلطة باسم “الاستقرار”.
لقد عانت سوريا لعقود من نظام حكم استخدم “الطوارئ” كستار دائم لتعليق القانون، وتجويف المؤسسات، وتمييع الشرعية. بل إن النظام نفسه ظلّ يبرر بقاءه على أنه مرحلة عبور نحو وعد لم يتحقق أبدًا: “المجتمع الأفضل، الوحدة، التقدم، الاشتراكية.”
في مشروع النهضة، تُفهم السياسة الانتقالية على نحو مغاير تمامًا: ليست مرحلةً رمادية، بل لحظة تأسيس شجاعة، تُبنى فيها القواعد الجديدة، وتُطبّق فيها العدالة، ويُعاد فيها تركيب الدولة على أسس جديدة. إنها اللحظة التي يُختبر فيها الصدق الوطني، والقدرة على بناء مؤسسات لا تعيد إنتاج النهب أو القمع، بل تؤسس لما بعدها.
أولًا: تفكيك نمط “الطوارئ” كسياق دائم
النظام السوري لم يكن في حالة طوارئ مؤقتة، بل جعل من الطوارئ نظام حكم. ومن أبرز ملامح هذا النمط:
تعليق الدستور والقانون باسم الضرورة، بما يسمح بالاعتقال دون محاكمة، وتجاوز القضاء، وتجميد الحقوق.
إلغاء التوازن بين السلطات، حيث أصبحت السلطة التنفيذية تتحكم بكل مفاصل الدولة، بما في ذلك التشريع والقضاء.
إنتاج مؤسسات انتقالية وهمية، مثل “مجالس الشعب” أو “الحوار الوطني”، بدون أي سلطة حقيقية أو تمثيل فعلي.
تبرير كل فشل على أنه نتيجة ظرف مؤقت أو مؤامرة خارجية، ما أدى إلى تعطيل كامل لمسؤولية الدولة عن أدائها.
بهذا الشكل، تم تشويه المفهوم نفسه للمرحلة الانتقالية، وتحويله من فرصة للتأسيس إلى حجة للاستمرار في التخريب.
ثانيًا: هدف السياسة الانتقالية في مشروع النهضة
تسعى السياسة الانتقالية، كما يصوغها مشروع النهضة، إلى تحقيق الآتي:
تحديد واضح لمفهوم “المرحلة الانتقالية” كزمن مؤسَّس، لا كفراغ شرعي.
تحقيق الفصل بين “سلطة الضرورة” و”الشرعية التأسيسية“، بحيث تكون الضرورة خاضعة للمساءلة ومحددة بزمن ووظيفة.
تأسيس أجهزة انتقالية سيادية، لا مؤقتة بالوظيفة، بل دائمة الأثر من حيث البناء.
عدم تعطيل مؤسسات العدالة أو المساءلة خلال المرحلة الانتقالية، بل تفعيلها كمحكّ للشرعية.
إن الهدف ليس الحفاظ على ما تبقى من الدولة القديمة، بل صياغة المرحلة الانتقالية كمسارٍ تأسيسي، تُبنى فيه القواعد لا تُعلّق، وتُحترم فيه الحريات لا تُؤجل، وتبدأ فيه المحاسبة لا تُرحّل.
ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة
إقرار “إعلان دستوري انتقالي” مؤسّس للشرعية:
يُحدّد شكل الحكم الانتقالي، وحدود السلطات، ومدتها، وآلية الرقابة عليها.
يُربط بمسار زمني محدد لإنجاز الدستور الدائم والانتخابات التأسيسية.
تأسيس “مجلس سيادة انتقالي” خاضع للرقابة المجتمعية:
يتمتع بصلاحيات واضحة، ويعمل كضامن لوحدة البلاد وحياد المؤسسات خلال العبور.
إنشاء “هيئة وطنية للعدالة الانتقالية والمحاسبة“:
تختص بجمع الأدلة، والتحقيق في الانتهاكات، وإعداد ملفات قضائية، وتقديم تعويضات، وإرساء المصالحة المشروطة بالحقيقة والمساءلة.
تفعيل اللامركزية الإدارية المؤقتة:
عبر تمكين المجالس المحلية من إدارة شؤون مناطقها ضمن إشراف سيادي، كجزء من تقاسم عبء المرحلة دون تفكك للدولة.
إرساء مسار تشريعي انتقالي:
يعتمد على لجان قانونية–شعبية تُصدر تشريعات ملحّة ذات طابع حمائي–مؤسساتي، دون المساس بالحقوق الأساسية أو اختلاق استثناءات غير مبررة.
جدولة زمنية واضحة للمرحلة الانتقالية:
لا تتجاوز 18 إلى 24 شهرًا، تتضمن: وضع الدستور، بناء المؤسسات الأساسية، التحضير للانتخابات، وتنفيذ العدالة.
رابعًا: المخاطر والتحديات
خطر تحوّل المرحلة الانتقالية إلى “نظام بديل مقنّع“ يُعيد إنتاج بنية السيطرة بذريعة الاستقرار.
ضعف مؤسسات الرقابة في اللحظة الانتقالية، ما يجعل السلطة عرضة للانحراف.
المخاوف المجتمعية من الفوضى والانقسام، والتي قد تُستخدم ذريعة لتأجيل التحول.
ضغوط القوى الدولية والإقليمية لإنتاج صيغ توافقية شكلية تُجهض التحول الحقيقي.
لذلك، لا بد من بناء المرحلة الانتقالية على قاعدة الشرعية الشعبية لا الصفقة، وعلى سيادة القانون لا التفاهمات الهشة.
خامسًا: فلسفة الانتقال في مشروع النهضة
يُفهم الانتقال في مشروع النهضة لا كحالة طارئة بل كزمن تأسيسي للمعنى والسيادة. الانتقال هنا ليس مجرد مرحلة بين نظامين، بل هو الزمن الذي فيه يُقرّر السوريون كيف يريدون العيش معًا، وتحت أي عقد، وبأي مؤسسات، وبأي شكل من السيادة.
ولهذا فإن المشروع لا يقترح حلًا شكليًا، بل يؤسس لانتقال مُنظّم، صارم، يُعيد بناء الدولة السورية من أنقاضها، دون أن يُعيد بعث رمادها القديم.
خاتمة
إن السياسة الانتقالية، كما يفهمها مشروع النهضة، ليست جسرًا هشًّا فوق نهر الفوضى، بل حجر الأساس لبناء الدولة الجديدة.
هي اللحظة التي تُكسر فيها سلاسل الاستثناء، وتُزرع فيها أول بذور القانون، وتُستعاد فيها السيادة من ركام التذرر والخوف.
إنها ليست فترة “انتظار”، بل زمن العمل الأهم: تأسيس سوريا التي لا تعود إلى الوراء.