القسم الخامس عشر – الباب الثاني
الفصل التاسع خطة السنوات الثلاث
استعادة الإدارة والإنتاج والثقة
مقدمة الفصل
ذا كانت السنة الأولى بعد الانهيار مكرّسة لتثبيت الحياة ومنع الانفجار، فإن السنوات الثلاث التي تليها تُشكّل المسار الحاسم في إعادة بناء الدولة كمؤسسة ومجتمع وهوية. في هذه المرحلة، تبدأ الدولة بالخروج من دور “المنقذ الطارئ” إلى دور “الفاعل البنيوي”، وتُختبر قدرتها على ترسيخ سيادتها ليس فقط أمنيًا، بل إداريًا، اقتصاديًا، وأخلاقيًا.
وهذا الفصل لا يقدّم خطةً تنموية تقليدية، بل “خطة استعادة” شاملة تُعيد إنتاج أدوات الدولة من الداخل، وتستند إلى ثلاثية مترابطة: الإدارة، الإنتاج، والثقة، بوصفها الأعمدة التي يُبنى عليها التوازن بين الأداء والسيادة، وبين الشرعية والمشروعية.
أولًا: استعادة الإدارة – من التآكل إلى المهنية السيادية
كانت الإدارة السورية أداةً في يد النظام لتكريس الولاء وقمع الفعالية المجتمعية. ولهذا، لا يمكن ترميمها إلا بإعادة تعريف وظيفتها ودورها من الصفر، من خلال:
- إعادة بناء الهيكل الإداري على قاعدة “الوظيفة لا الانتماء”، وإنشاء مفوضية وطنية مستقلة لإصلاح الخدمة العامة تتبع لمجلس النهضة الوطني.
- مراجعة شاملة لشبكات التوظيف السياسي وإلغاء العقود الفاسدة، ووضع معايير كفاءة صارمة لكل المستويات.
- رقمنة الوظائف العامة وتفعيل نظام شكاوى شفاف يخضع لمتابعة فعالة من جهة مستقلة.
- إعادة توزيع الكوادر بين المركز والأطراف وفق خطة إنصاف إداري تُنهي التركّز في دمشق والمدن الكبرى.
- إطلاق برامج تدريب وطني مكثّف، خاصة للشباب، في مجالات الإدارة، القانون، التنمية، والمالية العامة.
فالإدارة ليست ذراعًا للسلطة، بل معيارٌ للشرعية، ومرآة لمدى قرب الدولة من المجتمع.
ثانيًا: استعادة الإنتاج – من الاستهلاك إلى الاستقلال
السيادة السياسية بلا سيادة اقتصادية وهمٌ مؤجل. ولهذا، لا يمكن بناء مشروع وطني على اقتصاد ريعي تابع. تشمل خطة الإنتاج ما يلي:
- إعادة تشغيل المرافق الإنتاجية المتوقفة عبر شراكات مشروطة مع المستثمرين المحليين والدوليين بضمانات سيادية.
- إعفاء المنشآت الصغيرة والمتوسطة من الضرائب لثلاث سنوات، مع دعم مباشر للقطاع الزراعي والريفي.
- إطلاق برنامج لإعادة تدوير الموارد المحلية (مياه، نفايات، طاقة بديلة) لتأمين مقومات الإنتاج المستدام.
- وضع حزمة تشريعية لتحفيز عودة رؤوس الأموال السورية، تتضمن ضمانات قانونية وأمنية ومصرفية.
- بناء منظومة اقتصاد لامركزي تُعزز المبادرات المحلية ضمن مظلة وطنية تنظيمية.
فالإنتاج ليس فقط موردًا ماليًا، بل أداة للتحرر من الابتزاز والارتهان، وقاعدة لانبثاق سيادة فعلية.
ثالثًا: استعادة الثقة – من الشك المجتمعي إلى التعاقد الوطني
لا يُبنى وطن من دون ثقة. والثقة لا تُفرض، بل تُكتسب عبر سلسلة من الالتزامات الأخلاقية والمؤسسية، من أبرزها:
- تنفيذ ما يُعلن بدقة، والاعتراف بالأخطاء، وتقديم تفسيرات واضحة لأي تأخير أو إخفاق.
- تأسيس إعلام وطني حرّ ومستقل، يُعبّر عن المجتمع ويُحاسب الدولة لا يُزيّن خطابها.
- إدماج المجتمع المدني في مراحل التخطيط والتنفيذ، لا بوصفه تابعًا بل شريكًا نقديًا فاعلًا.
- استعادة الفضاءات التربوية (المدارس، الجامعات) كمؤسسات لبناء المواطنة، لا قنوات لإعادة إنتاج الطاعة.
- تحييد الدين عن أدوات الحكم والسيطرة، وحمايته من التوظيف السياسي، مع صون حقه كفضاء تعبدي حرّ.
الثقة هي الوقود الوحيد لأي مشروع سياسي قابل للاستمرار. ومن دونها، تعود الدولة إلى كونها جهازًا فارغًا بلا جذور ولا شرعية.
خاتمة الفصل
ثلاث سنوات ليست كافية لبناء دولة، لكنها كافية تمامًا لتحديد اتجاهها: هل تتقدّم نحو عقد اجتماعي جديد، أم تنزلق مجددًا نحو إعادة إنتاج القيد؟
إن استعادة الإدارة، والإنتاج، والثقة، ليست بنودًا فنية، بل هي محاور جوهرية لولادة الدولة ككيان سيادي أخلاقي. فإما أن تُبنى أدوات الدولة كوسائل للكرامة، أو تعود لتكون أقنعة جديدة للاستئثار.
ولهذا، لا يُقاس النجاح بعدد الخطط، بل بمقدار ما يُستعاد من معنى الدولة في وعي المواطن، وسلوكه، وكرامته اليومية.