القسم السادس – الباب الثاني
الفصل التاسع هندسة منظومة التنمية الشاملة
من اقتصاد الظل إلى اقتصاد الإنتاج الوطني
تمهيد:
من أكثر التحديات خطورة أمام أي مشروع نهضوي حقيقي في سوريا ما بعد الاستبداد هو حالة الشلل الاقتصادي المزمن، الناتج عن تدمير البنية الإنتاجية، وتمدّد اقتصاد الظل، واستباحة المال العام، وتحوّل الاقتصاد إلى أداة بيد مافيات الحرب والنفوذ.
ولذلك، لا يمكن لأي نهضة أن تُبنى بدون إعادة هندسة منظومة التنمية الاقتصادية، على أسس جديدة: الإنتاج، السيادة، الشفافية، وعدالة توزيع الفرص.
أولا: تشخيص الواقع الاقتصادي السوري – الانهيار المركّب
قبل أن نؤسس لمنظومة جديدة، علينا تشخيص الواقع كما هو:
هيمنة اقتصاد الريع والحرب:
تحولت موارد سوريا إلى جيوب قلة من المتنفذين الذين راكموا الثروات عبر التهريب، السمسرة، تجارة السلاح والمخدرات، والمضاربة على أوجاع الناس.
دمار القطاعات الإنتاجية:
الزراعة، الصناعة، والحرف التقليدية انهارت نتيجة الحرب، وانعدام الاستثمارات، وفقدان اليد العاملة، وغياب الأمن.
فقدان الثقة بالبيئة الاستثمارية:
نتيجة غياب القانون، وفساد القضاء، وابتزاز المستثمرين عبر المحسوبيات أو الابتزاز الأمني.
تضخم اقتصاد الظل:
أكثر من 60% من الاقتصاد السوري (وفق بعض التقديرات) بات خارج الإطار الرسمي، بما يشمل التجارة السوداء، السوق غير النظامية، والتهرب الضريبي.
نزيف الكفاءات:
هجرة جماعية للعقول والخبرات، ما حرم البلاد من رأس مال بشري ضروري لإعادة البناء.
ثانيا: مرتكزات هندسة منظومة التنمية الشاملة
بناء على هذا الواقع، تقوم منظومة التنمية الشاملة المقترحة ضمن مشروع النهضة على المبادئ التالية:
سيادة الاقتصاد الوطني:
التحرر من تبعية أمراء الحرب، ورأس المال الطفيلي، والأجندات الخارجية.
الانتقال من الريع إلى الإنتاج:
إعادة الاعتبار للزراعة، الصناعة، الحرف، السياحة الوطنية، والاقتصاد المعرفي.
اقتصاد وطني تعددي مرن:
يسمح بتعايش أنماط متعددة (خاص، عام، تعاوني، مجتمعي) ضمن ضوابط المنافسة الشريفة والمصلحة العامة.
عدالة الفرص:
إلغاء امتيازات الفئات المتسلطة، وتمكين كل سوري من حقه في العمل والمبادرة والاستثمار.
بيئة استثمارية آمنة وشفافة:
قضاء نزيه، قوانين واضحة، وإدارة خالية من الابتزاز والفساد.
تنمية متوازنة جغرافيًا:
إنهاء مركزية التنمية لصالح دعم الأقاليم والمناطق المختلفة بناءً على خصائصها وإمكاناتها.
ثالثا: الخطوط التنفيذية لهندسة التنمية
أ. تحفيز الإنتاج الزراعي والصناعي
توفير حوافز ضريبية وتمويلية للمزارعين والصناعيين.
إعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية (الري، الطرق، الطاقة).
إنشاء مناطق صناعية جديدة وآمنة، بعيدة عن مراكز الصراع.
ب. دمج اقتصاد الظل ضمن الاقتصاد النظامي
إصدار عفو اقتصادي مقابل تسجيل الأعمال في السجلات الرسمية ودفع ضرائب معقولة.
تسهيل الإجراءات الإدارية لتشجيع التحول إلى الاقتصاد الرسمي.
ج. إصلاح النظام المالي والمصرفي
إعادة هيكلة البنوك والمؤسسات المالية.
مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب الاقتصادي.
تطوير أدوات التمويل الصغير والمتوسط لدعم المبادرات الفردية.
د. دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة
إطلاق برامج دعم فني وتمويلي وإداري للمشروعات الصغيرة.
ربط المشروعات بالمجتمع المحلي والموارد الطبيعية.
هـ. استعادة الكفاءات المهاجرة
تقديم حوافز لاستقطاب الكفاءات السورية المهاجرة للعودة أو الاستثمار في الداخل.
إنشاء شبكات ربط بين الداخل والخارج للاستفادة من خبرات الجاليات السورية.
رابعا: الأدوات المؤسسية لهندسة التنمية
المجلس الوطني للتنمية الشاملة:
هيئة عليا تُخطط وتراقب وتنسق بين القطاعات كافة.
صندوق الاستثمار الوطني:
يمول المشروعات التنموية الكبرى من موارد الدولة ومن مساهمات السوريين المغتربين.
مراكز دعم ريادة الأعمال:
لدعم الشباب والمبادرين ومساعدتهم على تأسيس أعمالهم الخاصة.
مجالس التنمية المحلية:
في كل محافظة ومنطقة، تخطط التنمية وفق خصوصية الجغرافيا والمجتمع المحلي.
خامسا: التحديات الخاصة بالتنمية السورية بعد الحرب
ضعف الموارد المالية الحكومية:
يتطلب ذلك تحفيز القطاع الخاص والمغتربين والشراكات المجتمعية دون التفريط بالسيادة الاقتصادية.
الدمار الواسع للبنى التحتية:
يجعل من الضروري ترتيب الأولويات وربط الإعمار بخطط تنمية حقيقية وليس مجرد إعادة بناء عشوائية.
الألغام الاجتماعية:
الانقسامات المجتمعية يمكن أن تعرقل التنمية إذا لم ترافقها سياسات دمج مجتمعي ومصالحة اقتصادية.
المنافسة الدولية:
الدول والشركات الكبرى قد تسعى لفرض شروط استغلالية، لذا يجب التحصين الدستوري والسيادي لكل اتفاقيات الإعمار والاستثمار.
خاتمة الفصل
إن هندسة منظومة التنمية الشاملة في مشروع النهضة ليست مجرد خطة اقتصادية، بل هي جوهر عملية إعادة بناء سوريا الجديدة.
فالاقتصاد ليس قطاعًا منفصلًا عن السياسة والاجتماع والثقافة، بل هو الإطار الذي يتجلى فيه العقد الاجتماعي الجديد، وحيث يختبر الشعب معنى الحرية، والكرامة، والمواطنة الحقيقية.
ولهذا، فإن بناء اقتصاد منتج، سيادي، وعادل، ليس مجرد خيار تنموي، بل هو شرط وجودي لنهضة سوريا.