web analytics
القسم العاشر – الباب الثالث

الفصل التاسع الذاكرة الوطنية من التوظيف السياسي إلى السردية الجمعية

تحرير التاريخ من الهيمنة وتأسيس ذاكرة وطنية موحِّدة تعيد تشكيل الوعي السوري الجماعي

 أولًا: الخلفية – الذاكرة كساحة صراع بين السلطة والهوية

على مدى عقود، لم تُترك الذاكرة الجمعية للسوريين لتتكوّن بشكل طبيعي، بل تم التحكم بها من قبل السلطة عبر:

فرض رواية رسمية مطلقة للتاريخ الوطني، تبدأ من انقلاب البعث، وتُقصي ما قبله وما عداه.

قمع السرديات المحلية والمجتمعية والدينية والمناطقية، وتحويلها إلى روايات غير شرعية أو مشبوهة.

استخدام المناهج التعليمية والإعلام كأدوات إنتاج ذاكرة سلطوية، تقدّم القائد كصانع للتاريخ والشعب كمجرد جمهور متلقٍ.

إهمال أو تحريف المحطات المفصلية في الوجدان السوري: الاستعمار، الاستقلال، الوحدة والانفصال، مجازر الثمانينيات، الثورة، الحرب، المنفى…

وهكذا تم تحويل الذاكرة إلى أداة قهر، وسلاح رمزي لتكريس السلطة، ومنصة لإعادة إنتاج العنف الرمزي والاجتماعي.

 ثانيًا: التحديات أمام بناء سردية وطنية شاملة وموحّدة

تعدد الروايات وتضاربها، وغياب منصة جامعة لسرد الحدث الوطني.

انقسام المجتمع على أسس سياسية وطائفية ومناطقية، يجعل لكل فئة روايتها الخاصة.

الفراغ المؤسساتي في تدوين الأحداث، وأرشفة التاريخ، وتوثيق الشهادات.

تراكم آثار الكذب المؤسسي، وفقدان الثقة بصدقية الدولة في رواية الحقائق.

استغلال القوى الخارجية للفراغ السردي لترويج تصوراتها ومصالحها على حساب الوعي الوطني.

 ثالثًا: الأسس الجديدة – من الإنكار إلى الاعتراف، ومن الصراع إلى التشارك

إن تحرير الذاكرة الوطنية لا يعني فرض رواية جديدة، بل يعني:

تحرير السرد من الهيمنة السياسية والفئوية، وفتح المجال أمام الذاكرة التعددية المشروعة.

الاعتراف بالألم والضحايا والمآسي والمجازر كجزء لا يتجزأ من تكوين الهوية الوطنية.

دمج التجارب الفردية والجمعية في سردية كبرى تؤسس للانتماء لا للانقسام.

تحويل الماضي من أداة صراع إلى مصدر تعلم وتحصين للمستقبل.

 رابعًا: خارطة العمل لبناء الذاكرة الوطنية السورية الجديدة

1. إقرار الذاكرة كحق مجتمعي وليس امتياز سلطوي

النص في الدستور على “حق الشعوب في تملّك ذاكرتها”، وعلى التزام الدولة بـتوثيق تاريخها بشفافية وتعددية.

إلغاء جميع القوانين التي تُجرّم الكتابة أو البحث أو التداول في الشأن التاريخي أو السياسي.

2. تأسيس هيئة وطنية مستقلة لتوثيق وتنسيق السردية الوطنية

تضم مؤرخين، باحثين، شهودًا، ناجين، ممثلين عن الضحايا، فاعلين مجتمعيين، وتتمتع بصلاحيات كاملة في جمع الوثائق والشهادات.

تصوغ خريطة ذاكرة وطنية متكاملة، تعترف بتعدد الأصوات وتوثّق الجرائم والانتصارات والانكسارات بدون تزييف أو إنكار.

3. دمج الذاكرة في النظام التعليمي والإعلامي بشكل نقدي وتعددي

إعادة صياغة المناهج التاريخية والتربوية استنادًا إلى مبادئ التنوع، والتحليل، والعدالة.

إلغاء المناهج التي تُحوّل التاريخ إلى تمجيد لشخصيات أو أنظمة.

فتح الإعلام الوطني أمام برامج ذاكرات محلية، وشهادات حية، وسرديات منسية.

4. تخليد الضحايا وطيّ صفحة الإنكار الرمزي

إقامة نصب تذكارية، متاحف وطنية، وأيام إحياء رسمية للضحايا من كل الأطراف.

إصدار قوانين تعترف بالانتهاكات وتمنح الضحايا وأسرهم حقهم في الحضور الرمزي والاعتباري.

إدراج الجرائم التاريخية الكبرى في الوعي الرسمي كجرائم ضد المجتمع والدولة، لا كأحداث عابرة.

5. مأسسة برامج العدالة الرمزية والتصالح السردي

إطلاق مشاريع سردية مشتركة بين المجتمعات المحلية لرواية تجاربها من وجهة نظرها.

دعم الإنتاج الثقافي والفني والسينمائي المرتبط بالذاكرة والنقد والتوثيق.

بناء أرشيف وطني رقمي مفتوح للذاكرة السورية، يُدار بمهنية واستقلالية.

 خامسًا: الخطة التنفيذية المرحلية

  • المرحلة الأولى (أشهر 0–12)

تأسيس الهيئة الوطنية للذاكرة.

وقف العمل بكل المناهج التعليمية المرتبطة بالسرديات السلطوية.

بدء حملات وطنية لتجميع الشهادات والوثائق من الأفراد والمجتمعات.

  • المرحلة الثانية (سنة 1–3)

إصدار النسخة الأولى من الخريطة الوطنية للذاكرة السورية.

تدشين النصب والمواقع الرمزية الأولية للضحايا في المحافظات.

إطلاق برامج تعليمية وإعلامية تستند إلى الرواية التحليلية–النقدية للتاريخ السوري.

  • المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)

دمج مشاريع الذاكرة ضمن عملية بناء الهوية الوطنية والدستور.

مأسسة الذاكرة في الثقافة العامة، ومحاسبة أي محاولة لإعادة إنتاج النسيان أو الإنكار.

إنشاء مركز أبحاث دائم حول الذاكرة والهوية والسياسات المجتمعية.

 سادسًا: الذاكرة الوطنية كأداة وحدة لا كحقل ألغام

في غياب الذاكرة الجمعية، يُولد مجتمع بلا مرآة، وتنهار الدولة في دوامة نسيان انتقائي، وتُعاد صناعة الكارثة بأسماء جديدة.

إن مشروع النهضة السورية لا يسعى إلى طمس الألم، بل إلى تحويله إلى طاقة أخلاقية جامعة، وسردية تتسع للجميع، ولا تُقصي أحدًا، وتُنتج هوية وطنية متصالحة مع ماضيها، وصادقة مع حاضرها، وقادرة على بناء مستقبلها بوعيٍ لا إنكار فيه ولا انتقام.