القسم السابع – الباب الثاني
الفصل التاسع حوكمة الدولة
من الولاء الوظيفي إلى الإدارة السيادية
مقدمة: من الدولة–الغنيمة إلى الدولة–المؤسسة
في النموذج السوري السابق، لم تكن الدولة جهازًا إداريًا عقلانيًا،
بل كانت سوقًا للولاء، ومنصةً للمحسوبية، وبنيةً مشوّهة توزّع فيها الوظائف والمناصب لا على أساس الكفاءة… بل على قاعدة الطاعة والانتماء السياسي أو الطائفي أو الأمني.
وهكذا، تمّ تقويض جوهر الدولة ككيان مؤسسي،
وتحوّلت إلى بنية ولائية هشّة،
تفشل في تقديم الخدمة،
وتعجز عن اتخاذ القرار،
وتستنزف المال العام،
وتُعيد إنتاج التبعية والانهيار.
أما في مشروع النهضة السورية،
فالحوكمة ليست شعارًا إداريًا، بل هي فلسفة سيادية،
تبدأ من إعادة تعريف وظيفة الدولة،
وتصل إلى إعادة تصميم بنيتها لتكون خادمة للناس، لا مستغلّة لهم.
أولاً: ماهي الحوكمة في مشروع النهضة؟
الفرق بين الإدارة والسيطرة… هو الحوكمة.
والفرق بين الدولة كسلطة، والدولة كمؤسسة… هو الحوكمة.
في منظورنا، الحوكمة تعني:
منظومة متكاملة لإدارة الدولة ومؤسساتها على قاعدة الشفافية، الكفاءة، والمحاسبة.
إطار تنظيمي يضمن التوازن بين الفعالية والسيادة، وبين المرونة والرقابة.
هيكلية تشغيلية تُعيد توزيع الصلاحيات وفق معايير الوظيفة لا الولاء.
أداة لتحصين القرار العام من التسييس، والفساد، والتغوّل الشخصي.
ثانياً: علل انهيار الحوكمة في الدولة السورية السابقة
لفهم ما نريد بناءه، يجب أن نُدرك ما يجب تفكيكه.
في النظام القديم، انهارت الحوكمة بسبب:
تحويل المؤسسات إلى أدوات سياسية، لا إلى كيانات خدمية.
دمج الوظيفة العامة مع الولاء الشخصي أو الطائفي أو الأمني.
غياب المساءلة داخل المؤسسات، وتغوّل الهرمية العمياء.
تقزيم دور المديرين التنفيذيين لصالح الوصاية الفوقية من السلطة الأمنية أو الحزبية.
غياب مؤشرات الأداء، والمحاسبة، والتخطيط الإداري.
استبدال “التخصص” بـ”الثقة”، و”الوظيفة” بـ”الموقع السلطوي”.
ثالثاً: المبادئ الحاكمة للحوكمة السيادية
لضمان بناء بنية إدارية تخدم الدولة النهضوية، يجب اعتماد المبادئ التالية:
سيادة القانون: كل إدارة خاضعة للمحاسبة، لا حصانة لأحد داخل الجهاز العام.
الشفافية الكاملة: نشر الميزانيات، التعيينات، الترقيات، والمناقصات بشكل علني.
الكفاءة كمعيار أوحد للتوظيف: دون أي اعتبارات سياسية، دينية، أو مناطقية.
المساءلة الدورية: كل مدير مسؤول عن نتائج لا عن موقع.
التحرر من الهيمنة السياسية: منع أي تدخل حزبي أو ديني في التعيين الإداري.
توزيع الصلاحيات: لا مركزية تشغيلية مدروسة، تكسر الاحتكار الوظيفي للمركز.
رابعاً: أدوات تطبيق الحوكمة في الدولة الجديدة
نقترح حزمة أدوات تنفيذية لضمان تطبيق نموذج الحوكمة الفعّالة:
هيئة عليا للحوكمة: مستقلة دستوريًا، وظيفتها الرقابة الاستراتيجية على أداء كل مؤسسات الدولة.
نظام تقييم أداء مؤسساتي دوري: يُقيّم الأداء بناءً على مؤشرات كمية ونوعية، ويُنشر علنًا.
سياسات توظيف مركزية شفافة: تُدار إلكترونيًا، وتمنع أي تلاعب.
إصلاح بنية التوصيف الوظيفي: تحديد دقيق للمهام والمسؤوليات، بعيدًا عن العبارات الفضفاضة.
بنك وطني للكوادر: يضم كافة الطاقات السورية المؤهلة في الداخل والخارج، يُستدعى منه حسب الحاجة لا حسب الولاء.
أنظمة تدريب وتطوير وظيفي مستمرة: لتحديث المهارات والتأهيل بما يتناسب مع احتياجات المرحلة.
خامساً: أهداف الحوكمة في مشروع النهضة
لسنا نُجري إصلاحًا إداريًا فحسب، بل نُؤسس لمعنى جديد للدولة، ولذلك تهدف الحوكمة لدينا إلى:
إعادة الثقة بالمؤسسات العامة، بوصفها أدوات خدمة لا أدوات قمع.
رفع كفاءة الإنفاق الحكومي عبر توجيه الموارد إلى الأداء لا الامتيازات.
تفكيك شبكات الفساد الإداري والمالي التي بُنيت على الزبائنية.
خلق مؤسسات سيادية–تنموية تساهم في بناء اقتصاد ومجتمع مستقرين.
تحقيق العدالة التشغيلية بين كل المناطق والمكونات دون تمييز.
تحصين القرار التنفيذي من الابتزاز السياسي أو الانحياز الإيديولوجي.
سادساً: الحوكمة كشرط لبقاء الدولة لا لتجميلها
في سوريا الجديدة، لا يكفي أن تكون لدينا مؤسسات،
بل يجب أن تكون هذه المؤسسات قادرة، فاعلة، وخاضعة للمساءلة.
ولا يكفي أن نعيّن موظفين،
بل يجب أن نُعيد تعريف الوظيفة كأداة خدمة، لا بوابة سلطة.
وحين تتحول الدولة من كيان ورقي إلى مؤسسة خدمية سيادية،
تبدأ الثقة،
ويُبنى الاستقرار،
وتتكرّس النهضة من الأسفل، لا من الأعلى.
ختام الفصل
الحوكمة ليست مجرّد مصطلح إداري،
إنها مفتاح الانتقال من الدولة الورقية إلى الدولة الفاعلة،
ومن الولاء إلى السيادة،
ومن التبعية إلى الفعالية.
وبدونها، ستبقى الدولة مظهرًا… لا مضمونًا،
وستظل مؤسساتها مسقوفة بالفساد، والعجز، والخوف من التغيير.