web analytics
القسم الأول

الفصل التاسع البنية العسكرية للدولة

من مؤسسة وطنية إلى أداة قهر داخلي وتحوّلات العقيدة في ظل الارتهان الإقليمي

مدخل تحليلي–معرفي:

حين تُبنى الجيوش لتحمي المجتمع،
تكون جزءًا من مشروع الوطن.
لكن حين تُبنى لتحمي السلطة من المجتمع،
تصبح أداة قمع مُمأسس باسم الدولة.

في الحالة السورية، لم يكن الجيش منذ بداياته مجرد مؤسسة سيادية،
بل كان عنصرًا حاسمًا في تشكيل الدولة، وفي الانقلاب عليها في آنٍ معًا.
فقد دخل الحياة السياسية مبكرًا،
ولم يُفصَل عنها قط،
بل تعمّق اندماجه مع السلطة إلى أن صار هيكلها الصلب، ودرعها الحامي، وسيفها المُسلَّط على الداخل لا الخارج.

هذا الفصل ليس عن الجيش كمؤسسة قتالية،
بل عن العسكرة” بوصفها بنية سياسية وفكرية ونفسية،
حكمت الدولة والمجتمع،
وأعادت تشكيل العلاقة بين القوة والسيادة،
وبين المواطن والسلطة.

أولًا: الجيوش في السياق ما بعد الاستعماري – الإشكال البنيوي

ما بعد الاستعمار، في كثير من دول العالم الثالث،
تمّ بناء الجيوش الوطنية قبل بناء الدولة الوطنية،
فتحوّلت إلى فاعل سياسي مستقل، لا مجرد ذراع حماية.

وفي سوريا، كما في تجارب مشابهة،
لم يكن الجيش أداة لفرض الإرادة الوطنية،
بل مساحة لصراعات النخب،
ومدخلًا مبكرًا لاحتكار القرار،
وساحة للانقلابات المتوالية (من الزعيم إلى الشيشكلي إلى الحناوي إلى البعث).

وبدل أن يُربَط الجيش بالعقد المدني،
تمّ تسييسه… ثم تم تطييفه لاحقًا،
ثم أُدرج داخل أجهزة النظام كجزء من البنية السلطوية لا المؤسسية.

ثانيًا: عسكرة الدولة لا بناء جيش للدولة

في عهد حافظ الأسد، لم يُبْنَ الجيش بوصفه ذراعًا لدولة سيادية،
بل بُنيت الدولة ذاتها بوصفها محيطًا تابعًا للمنظومة العسكرية–الأمنية.

  • الجيش لم يخضع لسلطة مدنية، بل تحوّل إلى “السلطة العميقة”.
  • التراتبية داخل الجيش لم تكن قائمة على الكفاءة القتالية، بل على الولاء السياسي والطائفي.
  • تم صناعة “النخب العسكرية” على أسس الحماية لا الكفاءة، فكان الجنرال هو الأقرب للزعيم، لا الأجدر بقيادة الجيش.
  • وتم خلق وحدات عسكرية خاصة خارج هيكل الجيش (سرايا الدفاع، الحرس الجمهوري)، تكون أكثر ولاءً من النظامية.

وهكذا، أصبحت القيادة العسكرية مركز القرار، لا التنفيذ،
وصار الانتماء إلى المؤسسة العسكرية وسيلة للصعود الاجتماعي والسياسي،
وتحوّل المجتمع إلى قاعدة تجنيد مُفرَغة من القدرة على المساءلة.

ثالثًا: الجيش كأداة ضبط داخلي لا حماية خارجية

أخطر تحوّل حصل هو أن الجيش، في بنيته ووظيفته،
لم يُبْنَ لمواجهة العدو الخارجي،
بل لضبط الداخل، ومراقبة المجتمع، وتفتيت احتمالات العصيان.

  • أحداث حماة 1982 كانت ذروة عسكرة الداخل.
  • وجود الجيش في المدن، لا على الحدود، صار مألوفًا.
  • تم نشر قوات “قمع” بدل قوات “دفاع”.
  • الجيش صار مؤسسة استخباراتية ميدانية، لا مجرد تشكيل قتالي.

وبذلك، تم تقويض المعنى الوطني للجيش،
وحلّ مكانه المعنى السلطوي:
أن تحمي النظام أولًا… ولو على حساب الأمة.

رابعًا: العلاقة بين العسكرة والطائفية – من التوظيف إلى التوريط

النظام لم يُقم الجيش على أساس طائفي مُعلن،
لكنه استخدم التوزيع الطائفي داخل الجيش كأداة توازن وضبط وتحكّم.

  • تمّ تعزيز نفوذ الضباط المنتمين لفئة محددة في مفاصل القرار.
  • تمّ تهميش مناطق معينة في الترقيات العسكرية العليا.
  • أُعيد تشكيل الجيش بطريقة تجعل منه أداة ردع للمجتمع أكثر من كونه تجسيدًا له.

وهذا لم يُنتِج جيشًا طائفيًا بمعنى الانتماء الفردي،
بل جيشًا مسيَّسًا بطائفية النظام،
ورافعة لخطاب “الحماية من الفوضى”،
ووسيلة لتثبيت “استقرار الأمن على حساب الحرية”.

خامسًا: عسكرة الذهنية – كيف دخل الجيش في الحياة اليومية؟

لم تتوقف العسكرة عند المؤسسة العسكرية،
بل دخلت المدرسة، والمناهج، والإعلام، وحتى العمارة.

  • الطابور الصباحي صار فعلًا سياسيًا.
  • النشيد الوطني فُسّر كقسم ولاء لا كرمز جماعي.
  • الصور العسكرية ملأت الفضاء العام.
  • أدوات الخطاب اليومي تمّت قولبتها بمنطق الطاعة، والحسم، والانضباط.

وهكذا، لم يعد الجيش مؤسسة، بل أصبح “نموذجًا ثقافيًا” عامًا،
يُعاد إنتاجه في كل مؤسسة: التعليم، الحزب، الإعلام، الأمن…
وبذلك، تمت عسكرة الدولة والمجتمع، حتى في غياب البندقية.

سادسًا: تحوّلات العقيدة العسكرية – من السيادة إلى الولاء

في الجيش السوري، لم يتم تطوير “عقيدة عسكرية وطنية” مستقلة،

بل تم تبني عقيدة هجينة، مُحمّلة بالشعارات القومية، والعداء لإسرائيل، والتحالف مع المحور السوفيتي ثم الإيراني،
لكن بدون ترجمة حقيقية لهذه العقيدة على مستوى التمركز القتالي أو التخطيط الاستراتيجي.

فالعقيدة لم تُبنَ على:

  • فهم جغرافي لبيئة التهديد.
  • ولا على سياسات ردع متطورة.
  • ولا على رؤية تكاملية مع باقي مؤسسات الدولة.

بل على خطاب أيديولوجي فوقي، هدفه تبرير عسكرة الدولة، لا تحرير الأرض.

ولهذا، تمّ تصوير الجيش بوصفه الحامي الأبدي للسيادة، بينما كانت الجبهة الجنوبية مفتوحة لإسرائيل،
والجبهة الداخلية مغلقة على صوت المواطن.

لكن دون مساءلة أو تقييم.
واختُزل الانتماء للوطن في الانتماء للمؤسسة العسكرية الولائية،
وصار شعار “الجيش والشعب في خندق واحد” هو الخندق الذي لا يُمكن لأحد تجاوزه أو نقده.

سابعًا: الارتهان العقائدي – من موسكو إلى طهران

  1. الهيمنة السوفيتية:

منذ السبعينات، أصبح الجيش السوري تابعًا تقنيًا وتسليحيًا وعقائديًا للاتحاد السوفيتي:

  • تسليح كامل يعتمد على المعسكر الشرقي.
  • عقيدة تدريبية تُترجم نموذج الجيش الأحمر.
  • ضباط يتلقون تعليمهم في موسكو أو كييف أو مينسك.
  • تم ربط العقيدة العسكرية بمفاهيم الحرب الباردة، لا بالواقع السوري.

هذا الارتهان جمّد التفكير الاستراتيجي الوطني،
وجعل الجيش أشبه بفرع أمني خارجي بلباس قومي.
فتم قتل أي روح نقدية،
وتم استبعاد كل نمط تطوير محلي للعقيدة أو السلاح أو الاستراتيجية.

  1. الارتهان الإيراني لاحقًا:

مع بدايات الألفية، ثم بعد الثورة، دخلت إيران بقوة في صياغة العقيدة القتالية الجديدة،
خصوصًا عبر:

  • الحرس الثوري ومستشاريه.
  • الدمج بين الميليشيا والعقيدة.
  • استخدام البُعد الطائفي كمحرّك تعبوي.
  • استيراد أنماط “المعركة غير المتكافئة” القائمة على ولاء عَقَدي.

وهكذا، تحوّل الجيش من مؤسسة رسمية مركزية، إلى جسم مؤدلج”، متعدد الولاءات، فاقد للهوية السيادية.

ثامنًا: فلسطين ولبنان – تسييس الصراع لتبرير العسكرة

لم تكن القضية الفلسطينية في العقيدة العسكرية السورية محورًا للتحرير، بل ذريعة للتجييش.

  • تمّ استثمار شعار “تحرير الأرض” لتبرير عسكرة المجتمع.
  • غُيِّبت الحريات باسم “العدو المتربص”.
  • فُرضت الطاعة بدعوى “وحدة الجبهة الداخلية”.
  • ورُوّج لفكرة أن بقاء النظام = بقاء القضية.

أما في لبنان:

  • تم التدخل العسكري السوري تحت شعار “حماية الساحة”،
  • ثم تحوّل الوجود إلى إدارة سياسية وأمنية كاملة عبر البنية العسكرية.
  • وتحوّل الجيش إلى أداة لتثبيت نفوذ دمشق في بيروت،
    لا لحماية السوريين، ولا لتحرير الأرض.

وهكذا، تحوّلت القضايا العادلة إلى أدوات قمع،
والشعارات التحررية إلى أقنعة للهيمنة،
وانقلبت القضية من أفقٍ للنضال إلى ذريعة للقتل الداخلي.

تاسعًا: أثر عسكرة الدولة على المجتمع – من الانتماء إلى الذعر

حين يُختزل الوطن في الجيش،
ويُختزل الجيش في النظام،
يُختزل المجتمع في كائن مراقَب، عاجز، مذعور.

  • الخدمة العسكرية الإلزامية تصبح عبئًا طبقيًا وطائفيًا.
  • التربية الوطنية تُحوَّل إلى تلقين عسكري.
  • التعليم يَخضع للمراقبة العسكرية.
  • وتُزرع في وعي المواطن فكرة أن “الوطن” ليس ما تحبه، بل ما تخافه.

وهكذا، تنهار العلاقة الطبيعية بين الدولة والمجتمع،
ويتحوّل الجيش من درع الوطن… إلى حاجز على طريقه.

خاتمة الفصل:

ما تم في سوريا لم يكن عسكرة للدولة فقط،

بل نزع لروح الدولة من جسدها، واستبدالها بجهاز يشتغل بغير عقله، ويُدير الأمن باسم التحرير، ويسيّج الخوف باسم الكرامة.

الجيش السوري، كما أُنتج، لم يُبنَ ليحارب،
بل ليبقى.
ولم يُصمَّم ليردع عدوًا، بل ليُخيف مواطنًا.
ولم يُدرَّب ليحمي الحدود، بل ليحمي حدود النظام.

ولهذا، فإن النهضة لا يمكن أن تتجنب الجيش،
ولا أن تهادنه بالخطاب،
بل يجب أن تعيد بناء العقيدة القتالية الوطنية من الجذر،
على أساس أن العدو الحقيقي هو من يحتل الأرض،
لا من يطالب بالحرية.

الجيش في سوريا لم يفشل، بل نجح في ما طُلب منه: حماية النظام.
لكنه فشل في أن يكون جيش دولة، وأخفق في أن يكون حاميًا لوطن.

والمأساة أن هذا الفشل ليس خطأ، بل نتاج تصميم سلطوي طويل الأمد.

ولذلك، فإن أي نهضة حقيقية لا تبدأ فقط من الاقتصاد أو الثقافة،
بل من إعادة تعريف المؤسسة العسكرية:
بأنها ملك الأمة لا الحاكم،
وأن وظيفتها حماية الناس، لا إخضاعهم،
وأن شرف السلاح لا يكون إلا في خدمـة الحرية.

وإعادة تعريف الجيش ليست خصومة مع المؤسسة،
بل استعادةٌ لها من خاطفيها،
لتكون لأول مرة… جيشًا للأمة، لا سلاحًا ضدها.