web analytics
القسم التاسع – الباب الخامس

الفصل التاسع عشر الذاكرة الجماعية

من النسيان القسري إلى الهوية الحارسة

مقدمة تأسيسية: من لا يملك ذاكرته، لا يملك حاضره… ولا مستقبله

الدولة لا تقوم على البنية فقط، بل على الرواية.

والمجتمع لا يصمد بالسياسات فقط، بل بـالذاكرة التي تحصنه من الإنكار، وتحفظ له تاريخه، وتصوغ له هويته الأخلاقية والسياسية.

في سوريا، لم تكن الذاكرة الجماعية مسألة حيادية أو تاريخية، بل كانت أرض معركة بين السلطة والناس.
فالنظام لم يسعَ فقط إلى كتابة تاريخه الخاص، بل سعى إلى محو كل سردية لا تُشبهه.
– أُقصيت المجازر،
– شُوّهت الثورات،
– صودرت ذاكرة المناطق،
– قُمعت سرديات الضحايا،
– وتحوّل التاريخ إلى نشيد تمجيد، لا إلى نقد أو عبرة.

أجيالٌ نشأت دون أن تعرف ماذا حصل في حماة 1982،
ولا من هم معتقلو صيدنايا،
ولا ماذا جرى في تدمر،
ولا لماذا انتفض السوريون،
ولا كيف تشكّلت الهويات،
ولا ما معنى أن يعيش الإنسان ذاكرة مقموعة داخل وطن يُفرض عليه أن ينسى كي لا يُحاسب.

ومع الحرب، تفاقم الانقسام:
– تكاثر الرواة،
– تضاربت الحقائق،
– غابت الذاكرة المؤسسية،
– وانفجر المجتمع على شكل جماعات لكل منها قصتها، لكن لا أحد يعترف بقصة الآخر.

في مشروع النهضة، لا نعيد فقط الاعتراف بالذاكرة،
بل نبنيها كركيزة للعدالة، ومجال للسيادة، وأداة تأسيسٍ للدولة،
لأننا نؤمن أن الذاكرة ليست لعنة، بل نعمة إذا صيغت بعقل، ونزاهة، وشجاعة، وعدالة.

أولًا: تشريح النسيان القسري في التجربة السورية

  1. سلطة الذاكرة الرسمية

التاريخ في سوريا لم يكن علمًا، بل أداة سلطة.
– كُتبت المناهج لتُمجّد الحاكم،
– وصُوّر الوطن من خلال “بطولات القائد”،
– وأُسقطت مراحل كاملة من التعدد، والمقاومة، والانقسام، والمعاناة.

  1. إنكار الضحايا

لم يتم الاعتراف بأي مجزرة كبرى أو جريمة ممنهجة بحق السوريين،
بل تم نزع صفة الضحية عن أصحابها،
وتحوّل الألم إلى “تهديد وطني” يجب قمعه باسم “الاستقرار”.

  1. تطييف السرديات

مع تفتت المجتمع، تشكّلت ذاكرات طائفية، مناطقية، إثنية، أيديولوجية،
كل واحدة تكتب تاريخها الخاص، دون حوار، دون عبور، دون رغبة بالتقاطع.

4.غياب المؤسسة الحافظة

– لا أرشيف وطني مستقل،
– لا متاحف لذاكرة الحرب،
– لا مراكز توثيق رسمية للضحايا،
– لا مناهج تعترف بما جرى،
– ولا مؤسسات تحفظ الشهادات أو تدقّق فيها.

ثانيًا: فلسفة الذاكرة في مشروع النهضة – من التوظيف إلى التأسيس

  1. الذاكرة حق، لا وجهة نظر

لكل سوري الحق في رواية تجربته،
لكن الذاكرة الجماعية لا تُبنى على الغلبة، بل على التعدد، والاعتراف، والتقاطعات، ومساحات الحقيقة المشتركة.

  1. لا عدالة انتقالية دون ذاكرة

العدالة لا تعني العقوبة فقط، بل الاعتراف الكامل بالماضي،
– الاعتراف بالضحايا،
– بتسلسل الأحداث،
– بالسياسات التي أوصلت إلى الانهيار،
– وبالأخطاء التي تكررت.

  1. من التاريخ السياسي إلى الذاكرة الاجتماعية

لا نُعيد فقط ما قالته الأنظمة أو الأحزاب،
بل نُوثّق حياة الناس:
-– قصص النساء في الحصار،
– شهادات المعتقلين،
– ذاكرة المزارعين في الجفاف،
– أصوات من نجوا ومن لم يُنصفوا.

  1. من النصب إلى الفعل المؤسسي

لا يكفي أن نبني نصبًا تذكاريًا أو نُطلق مناسبة،

بل يجب أن نُأسّس ذاكرة حية، مفتوحة، متجددة، قابلة للنقد والتطوير، ومعززة بالأرشيف، والتعليم، والإعلام، والتوثيق الرسمي.

ثالثًا: السياسات التنفيذية للذاكرة الجماعية السيادية

  1. إصدار “قانون الاعتراف الوطني بالذاكرة الجماعية

ينصّ على:

الحق في حفظ وتداول الذاكرة

تجريم إنكار الجرائم الكبرى بحق المدنيين

إدراج فصول من الذاكرة الجماعية في المناهج والمدارس

حماية الشهادات والوثائق من التلاعب أو المصادرة

  1. تأسيس “مؤسسة الذاكرة الوطنية السورية

هيئة مستقلة، تتمتع بصلاحيات توثيقية–بحثية–أرشيفية

تجمع الروايات المتعددة

تُقيم متاحف الذاكرة في كل محافظة

تُطلق برامج توثيق بالصوت والصورة

تفتح أبوابها أمام الناجين والضحايا والباحثين والمؤرخين

  1. بناء “الأرشيف الوطني للعدالة والانتهاكات

يشمل:

المعتقلات

المجازر

النزوح

السجون السرية

شهادات الضحايا

خرائط الانتهاكات

يُدار بشكل مشترك بين مؤسسات رسمية وحقوقيين ومجتمع مدني

  1. دمج الذاكرة في الإعلام والتعليم

تخصيص برامج وثائقية وتلفزيونية دائمة للذاكرة

إدراج مادة “الوعي التاريخي والذاكرة الوطنية” في المراحل الإعدادية والثانوية

تمكين الطلاب من المقارنة بين السرديات، لا تلقين رواية واحدة

  1. إنشاء يوم وطني سنوي للذاكرة والاعتراف

لا لتكريس الحزن، بل كي لا يتكرر الماضي

تُقام فيه فعاليات على مستوى الوطن: شهادات، مناقشات، زيارات أرشيفية، مراجعات جماعية

خاتمة تأسيسية

في سوريا الجديدة، لن يُطلب من أحد أن ينسى كي يُسمح له أن يعيش.
ولن تُفرض على الناس ذاكرة موحّدة تُخفي الجراح،
بل ستُبنى هوية وطنية تحتمل التعدد، وتُؤسس على الاعتراف، وتصون الكرامة من أن تُمحى.

الذاكرة، كما نراها، ليست جدارًا نعلّق عليه صورًا من الماضي،
بل هي البنية المعرفية–القيمية التي تحمي الدولة من أن تعود إلى ما كانت عليه،
وتحمي الناس من أن تُعاد صياغة القمع باسم “التاريخ”.

من كل ذلك، ننتقل إلى ما نختم به هذا القسم:

النهضة السورية، لا بوصفها نهاية طريق، بل كمشروع مفتوح، يحمل في داخله القدرة على الاستمرار، والحماية، والتجدد.