web analytics
القسم الأول

الفصل التاسع عشر التكنولوجيا والمعلوماتية في سوريا

 من القطيعة إلى العزل الرقمي

مدخل فلسفي–معرفي:

في القرن الحادي والعشرين، لم تعُد التكنولوجيا ترفًا تنمويًا،
بل تحوّلت إلى مجالٍ سياديٍ بامتياز،
تُدار عبره الدول،
ويُصاغ عبره الوعي،
ويُعاد توزيع الثروة،
ويُقاس حضور الأمم من خلاله.

أما في سوريا، فقد تم التعامل مع التكنولوجيا بوصفها تهديدًا،
لا أداةً للنهضة،
وبوصفها قناة اختراق، لا قناة سيادة.

وهكذا، تم قطع الصلة بين الدولة والمستقبل،

فبينما كانت الأمم تكتب تحولاتها عبر التكنولوجيا،

كانت السلطة في سوريا تكتب عزلة الإنسان عن الزمن.
فاستُبدلت المعرفة الحرة بالرقابة،
والوصول المفتوح بالحجب،
وإمكانيات الربط بالفصل والعزل والتجهيل.

أولًا: السياسة التكنولوجية للنظام – من الحذر إلى العداء

لم تكن التكنولوجيا في يومٍ من الأيام حليفًا للنظام السوري،
بل ظلت دائمًا عنصر قلق ومصدر تهديد، منذ بدايات دخول الإنترنت عام 2000.
اتخذ النظام حياله موقفًا يقوم على ثلاثية:

  1. الرقابة:
    • تأسيس فروع أمنية مخصصة لمراقبة الانترنت.
    • اختراق البريد الإلكتروني، شبكات التواصل، والمنتديات.
    • تعقّب الناشطين الإلكترونيين وملاحقتهم.
  1. الحجب:
    • حظر آلاف المواقع (إخبارية، سياسية، اجتماعية، ثقافية).
    • منع استخدام أدوات التشفير، والـVPN، والبرامج المفتوحة.
  1. الاحتكار:
    • حصر شبكات الاتصالات بشركتين (سيريتل وMTN)،
    • وكلتاهما خاضعتان للسلطة المباشرة أو عبر واجهات اقتصادية موالية.
    • منع أي استثمار مستقل في البنية المعلوماتية.

وهكذا، بدل أن تكون التكنولوجيا وسيلة لربط المواطن بالعالم،
أصبحت أداة لربطه بالجهاز الأمني.

وأصبح المجال الرقمي في سوريا فضاءً للتدجين، لا للتحرر، وللمطاردة لا للتعلّم.

ثانيًا: تدمير البنية المعلوماتية للدولة – من الإدارة الورقية إلى الفوضى الرقمية

  • لم تُبنَ أي حكومة إلكترونية حقيقية،
  • لم تُرقمن الوزارات، ولا المحاكم، ولا سجلات الدولة،
  • لم يُمنح المواطن أي خدمات رقمية ذات معنى،
  • بل ظل النظام يعتمد الورق، والأختام، والبيروقراطية، بوصفها أدوات ضبط لا أدوات تنظيم.

 وكانت النتيجة:

  • غياب الشفافية،
  • تفشي الفساد،
  • شلل في الاتصال بين المركز والمجتمع،
  • وانعدام القدرة على اتخاذ القرار المستند إلى بيانات موثوقة.

ثالثًا: التكنولوجيا والتعليم – من الانفتاح إلى التجهيل المنهجي

لم يُدمج التعليم السوري في أي لحظة في مشروع معرفي–رقمي،
بل:

  • غابت الحوسبة عن معظم المدارس،
  • لم تُدرّس علوم البيانات ولا الذكاء الاصطناعي،
  • لم تُوفَّر بنية تحتيّة رقمية،
  • وتمّ تحويل الإنترنت في الجامعات إلى أداة رقابة، لا تعليم،
  • أما الأبحاث العلمية، فظلّت بعيدة عن أي نهج حوسبي أو تكنولوجي متطور.

وبذلك، نشأ جيل يتعامل مع التكنولوجيا بوصفها أداة ترف أو خطر، لا أداة إنتاج معرفي أو تحرر إنساني.

جيلٌ حُرم من أدوات اللحاق بالعصر، وقُيّدت إمكانياته كي لا يرى في المعرفة بابًا للخلاص.

رابعًا: الرقمنة في زمن الحرب – من الفوضى إلى الهيمنة

مع تفكك الدولة المركزية خلال الحرب،
شهدت سوريا فوضى رقمية متضاربة:

  • شبكات تواصل بديلة ظهرت في مناطق المعارضة أو الخارج، لكنها ظلّت هشة ومخترَقة.
  • مجموعات إلكترونية مسلّحة وظّفت التكنولوجيا للدعاية أو الحرب النفسية.
  • أجهزة أمنية تابعة للنظام استخدمت الحسابات الوهمية والهندسة الاجتماعية لخرق المعارضين.
  • دول خارجية (إيران، روسيا) أدخلت بنى رقمية موازية داخل البنية السيادية للدولة.

وهكذا، لم تتحرر التكنولوجيا… بل تضاعف احتكارها،
وصارت مركزًا لتجميع القوة، لا لتوزيع المعرفة.

خامسًا: تكنولوجيا خارج التاريخ – من الانعزال إلى التبعية

  • لا إنتاج محلي للتقنيات،
  • لا استراتيجية وطنية للبحث والتطوير،
  • لا صناعة رقمية سورية،
  • لا سيادة على البيانات، بل تحوّلت البيانات السورية إلى مورد مستباح تُحلّله شركات أجنبية، وتُوظّفه أجهزة إقليمية.
  • تم تدمير منظومة الأرشفة الرقمية والمؤسسات الإحصائية.

والأسوأ أن سوريا تُدار رقميا من الخارج:

  • خوادم،
  • اتصالات،
  • مواقع،
  • برمجيات،
    كلها خارج سيطرة الدولة،
    ما يعني فقدانًا حقيقيًا للسيادة السيبرانية.

سادسًا: المعرفة الرقمية كشرط للسيادة في مشروع النهضة

في مشروع النهضة، لا تُعامل التكنولوجيا بوصفها “قطاعًا تنمويًا”،
بل ركيزة معرفية سيادية تُعيد رسم العلاقة بين:

  • المواطن والمعلومة،
  • الدولة والإدارة،
  • الاقتصاد والسوق،
  • المدرسة والمجتمع،
  • والثقافة والمعنى.

ولهذا، فإن استعادة العلاقة مع التكنولوجيا يجب أن تتم عبر:

  1. تحرير المجال الرقمي من الرقابة والسيطرة الاحتكارية.
  2. توطين المعرفة الرقمية – لا استيرادها بلا فهم.
  3. دمج التكنولوجيا في التعليم، الحكم، الاقتصاد، والإعلام.
  4. حماية البنية الرقمية من الاختراق والسيطرة الخارجية.
  5. إدماج الجيل الجديد في بناء المعرفة لا استهلاكها فقط.
  6. صياغة استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي، البيانات، الأمن السيبراني.

“فلا مشروع نهضوي يُبنى على عقلٍ مفصول عن أدوات عصره.”

خاتمة الفصل: التكنولوجيا ليست شاشة… إنها مستقبل السيادة

أنظمة الاستبداد لا تخاف من التكنولوجيا بوصفها جهازًا،
بل بوصفها أداة وعي.

ولهذا سعت السلطة في سوريا إلى كسر صلة المواطن بالمعرفة،
وبين المجتمع والمعلومة،
وبين الدولة والزمن الحقيقي للعالم.

وفي مشروع النهضة، لا نطمح فقط إلى إدخال التكنولوجيا،
بل إلى تحرير المعرفة، وبناء إنسان سيادي، قادر على إنتاج أدواته، لا الخضوع لها.

التكنولوجيا ليست مجرد وسيلة،
بل هي ميدانُ معركةٍ على المستقبل،
ومن يخسرها… يكتب تاريخه بيد غيره.

ولهذا، فإن امتلاك التكنولوجيا ليس رفاهًا، بل فعلُ تحررٍ من الماضي، وبناءٌ للغد بأدوات الحاضر.”