القسم الرابع – الباب الأول
الفصل الأول بناء الثقافة السياسية الجامعة
من الانتماء الطائفي إلى المواطنة الكاملة
مقدمة تحليلية
لم تكن الأزمة السورية، في جوهرها، مجرّد انفجار سياسي أو أمني، بل كانت في أحد أعمق أوجهها أزمة في الوعي السياسي نفسه، وانكشافًا كارثيًا لما تحمله شرائح واسعة من المجتمع من تصوّرات هشّة أو مشوّهة عن الدولة، والمواطنة، والحقوق، والهوية الوطنية.
لقد كُشف الغطاء عن واقع مرير:
- ثقافة سياسية مؤدلجة أو طائفية أو انتقامية.
- ولاء للمكوّن لا للوطن.
- رؤية للدولة كـ”غنيمة” أو كـ”قيد”، لا كإطار جامع وراعٍ.
- فقر هائل في المفاهيم المتعلقة بالمشاركة، بالتمثيل، بالرقابة، بالشرعية، وبالحق في المعارضة أو التغيير.
وفي ظل هذا التشوّه، تحوّل العمل السياسي إلى ساحة صراخ وانقسام وتخوين، بدلًا من أن يكون أداةً لبناء التوافق وتنظيم التنوع وضمان تداول السلطة.
أولًا: الثقافة السياسية في ظل الاستبداد – تدجين وتفكيك
- مصادرة السياسة من المجال العام
– جرّمت السلطة أي نشاط سياسي خارج حزب البعث.
– اختُزل الفعل السياسي في “البيعة”، أو في التبعية الكاملة للنظام. - تدجين المفاهيم السياسية
– تم تفريغ المفاهيم من محتواها:
– الديمقراطية = مشاركة شكلية.
– الانتخابات = ولاء مسبق.
– المواطنة = امتياز خاضع للرقابة.
– وتم ترسيخ ثقافة “الامتنان للنظام” بدل ثقافة “الحق في المساءلة”. - تفكيك المجال السياسي لصالح الأمني والطائفي
– أصبح الانتماء السياسي غطاءً للطائفة أو الجهة الأمنية.
– وصار الموقف السياسي يُحدَّد من قبل الأجهزة لا من خلال النقاش أو الاقتناع.
ثانيًا: تفكك الانتماء الوطني تحت وطأة الطائفية والحرب
- الطائفة بديلاً عن الوطن
– حين تُهدد الدولة أو تتفسّخ، يبحث الفرد عن ملاذ: الطائفة، العشيرة، القومية.
– ومع تحوّل سوريا إلى ساحة صراع أهلي، ازدهرت الولاءات الدنيا، وانكمشت الهوية العليا. - سياسات التطييف خلال الحرب
– مارست معظم الأطراف استثمارًا مباشرًا للهويات الفرعية كأدوات تعبئة وتحريض.
– وبرزت كيانات سياسية ذات خطاب طائفي أو إثني، ما عزّز التذرر والانقسام. - فقدان الثقة بالهوية الوطنية كمظلّة حامية
– انكشفت “الدولة” كمؤسسة لا تحمي الجميع، بل تقف مع فريق ضد آخر.
– فتحوّل الانتماء الوطني إلى شعور هش أو ساخر أو قسري، لا طوعي.
ثالثًا: الثقافة السياسية الجامعة – الملامح والمقومات
- من الطائفة إلى المواطنة
– لا يعني ذلك إنكار الهويات الفرعية، بل تنظيمها داخل فضاء مدني مشترك.
– المواطنة ليست محوًا للهويات، بل حماية متساوية لها ضمن عقد قانوني جامع. - من الولاء للزعيم إلى الرقابة على السلطة
– الثقافة السياسية الجديدة تُعيد الاعتبار للسيادة الشعبية، ولحق الاختلاف، ولشرعية المعارضة. - من الحشد إلى الحوار
– الخطاب السياسي لم يعد ساحة تعبئة غوغائية، بل فضاءً للتفكير، والتفاوض، والتعددية. - من الدولة–الأداة إلى الدولة–الضامن
– الثقافة الجديدة تُعرّف الدولة بوصفها راعية للحقوق، لا مانحة لها؛ ضامنة للتنوع، لا مرسّخة للتفرقة.
رابعًا: بناء هذه الثقافة – من أين نبدأ؟
- إصلاح التعليم السياسي والوطني
– تحديث المناهج لتُدرّس مفاهيم المواطنة، المشاركة، الفصل بين السلطات، والحقوق السياسية.
– ربط النظرية بالواقع السوري الملموس، بدل التلقين الشعاراتي. - تحرير الإعلام من الخطاب الأحادي
– خلق فضاءات نقاش عامة حرة، يُعبّر فيها السوري عن رأيه دون خوف أو شيطنة.
– إبراز النماذج السياسية المدنية المعتدلة بدل الخطابات الصفرية أو الشعبوية. - تشجيع العمل الحزبي والمبادرات السياسية المدنية
– منح السوريين أدوات وآليات للتمثيل والتنظيم والمشاركة، بما يُحوّل السياسة من تهمة إلى وظيفة اجتماعية نبيلة.
- ضمان حياد الدولة ومؤسساتها تجاه الجميع
– لا بناء لثقافة سياسية جامعة إذا استمرت الدولة في التصرف كطرف.
– يجب أن تكون الدولة هي الحكم، لا اللاعب، في التعددية السياسية القادمة.
خاتمة الفصل
إن أخطر ما فعله الاستبداد في سوريا ليس تكميم الأفواه فقط، بل قتل السياسة من داخلها، وتحويلها إلى صدى للرعب، أو أداة للانقسام، أو منصة للابتزاز.
أما مشروع النهضة، فهو يسعى لإعادة الحياة إلى السياسة من جديد:
– سياسة ترتكز على المعرفة لا الولاء.
– وعلى المواطنة لا الطائفة.
– وعلى العقد لا القوة.
فلا مستقبل لسوريا دون ثقافة سياسية جديدة،
ولا ثقافة سياسية حقيقية دون إيمان جمعي بأن الوطن للجميع، والسلطة للجميع، والمصير مشترك رغم التنوع.