web analytics
القسم الثامن – الباب الأول

الفصل الأول بناء السلطة التنفيذية

من التنظير إلى الهيكل الوظيفي

مقدمة تمهيدية:

في كل تجربة انتقال سياسي جاد، تشكّل السلطة التنفيذية النقطة المفصلية بين الفوضى والتنظيم، بين التسلّط والحكم، وبين إعادة إنتاج الاستبداد أو تأسيس شرعية جديدة. ولهذا، لا يكفي في مشروع الدولة السيادية إعادة توصيف هذه السلطة أو تقليد نماذجها، بل لا بدّ من إعادة تعريفها جذريًا، من حيث وظائفها وبُناها وعلاقتها بالمجتمع والدستور.

فالسلطة التنفيذية، كما نصوغها هنا، ليست تمركزًا للقرار، ولا بنية فوقية للحكم، بل هي المنظومة الإجرائية التي تجعل من السيادة فعلاً مؤسسيًا محكومًا بالقانون، ومراقبًا من قِبل الشعب، وملتزمًا بحدود الوظيفة العامة. ومن هذا المنطلق، ننتقل من التصور الفلسفي للسلطة إلى هندستها العملية ضمن بنية مؤسساتية متكاملة، تكفل الفاعلية دون تسلّط، والمرونة دون فوضى.

أولًا: الوظيفة التنفيذية كأداة تعاقدية لا كأداة تسلّط

ليست السلطة التنفيذية، في السياق السيادي الذي تسعى إليه هذه الدراسة، جهازًا بيروقراطيًا معزولًا عن الإرادة الشعبية، ولا بنية سلطوية تعمل وفق منطق القوة أو الغلبة أو الامتيازات، بل هي تمثيلٌ وظيفي للقرار العام، تجسيدٌ تقني–سياسي لعقدٍ اجتماعي قائم على المساواة والمساءلة.

وحين نعيد تأسيس هذه السلطة في الدولة السورية الجديدة، فإننا لا نعيد تدوير الوظائف التي اعتادتها الأنظمة السلطوية، بل نعيد ابتكارها من الجذر، بوصفها التعبير الأرقى عن انتقال السلطة من الفرد إلى المؤسسة، ومن السيطرة إلى الإدارة، ومن الامتياز إلى الخدمة.

ثانيًا: منطلقات تأسيس السلطة التنفيذية في الدولة السيادية

يرتكز البناء الجديد للسلطة التنفيذية على إعادة تعريف موقعها ضمن النسق الكلي للسلطة، بحيث تتحول من سلطة حاكمة إلى وظيفة خادمة، ومن جهاز مركزي متغوّل إلى مؤسسة مقيدة بالقانون وخاضعة للمساءلة المتعددة المستويات.

وهذا التحول الجوهري لا يمكن أن يتم إلا عبر خمس مرجعيات تأسيسية:

المرجعية الفلسفية للسلطة بوصفها وظيفة لا امتيازًا، كما أسس لها جان جاك روسو وهابرماس، من خلال ربطها بالعقد الاجتماعي وشرعية الغاية.

المرجعية القانونية الحديثة التي تربط القرار التنفيذي بالمشروعية الدستورية، وفق ما بلورته مدرسة سيادة القانون في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة.

المرجعية الإدارية التي تجعل من الكفاءة والشفافية والفاعلية مكونات بنيوية في العمل التنفيذي، لا شعارات فوقية.

المرجعية الرقابية التي تفترض أن كل سلطة دون رقابة تنقلب إلى تسلّط، مما يستدعي بناء منظومات رقابة فعالة داخل السلطة نفسها ومن خارجها.

المرجعية الأخلاقية التي ترى في المنصب التنفيذي مسؤولية عامة لا فرصة خاصة، وتستمد جذورها من فلسفات العدالة العمومية التي أسس لها رولز وأمارتيا سن.

ثالثًا: مكونات الهيكل التنفيذي – من التمركز إلى التوازن

  1. رئاسة الدولة – موقع رمزي–سيادي لا مركز قرار منفرد

ضمن المشروع الجديد، لا تُبنى الدولة على فرد، بل على وظيفة سيادية رمزية تجسّد وحدة الدولة دون أن تتحول إلى مركز استحواذ على السلطة.

رئيس الدولة هنا:

هو ضامن لوحدة الكيان الدستوري، لا مقرّر في السياسات التنفيذية اليومية؛

يتم انتخابه إما مباشرة من الشعب أو من المجلس النيابي الموسّع وفق التوافق الوطني؛

يمارس صلاحيات محدودة بدقة تشمل تمثيل الدولة خارجيًا، التصديق على القوانين، الدعوة للانتخابات، وتكليف رئيس الحكومة ضمن آليات شفافة وملزمة؛

يخضع للمساءلة أمام المحكمة الدستورية، ويتم تحديد ولايته زمنًا وصلاحيات.

  1. رئاسة الحكومة – نقطة الارتكاز الفعلية للوظيفة التنفيذية

رئيس الحكومة هو مركز القرار التنفيذي الفعلي، وتُناط به المهام التالية:

تشكيل الحكومة وعرضها على المجلس النيابي لنيل الثقة؛

إدارة السياسات العامة، وتنسيق عمل الوزارات، وتقديم الخطط الوطنية؛

تمثيل الجهاز التنفيذي أمام البرلمان وأمام القضاء الإداري؛

إصدار التوجيهات التنفيذية ضمن حدود الدستور والرقابة.

لا يتمتع رئيس الحكومة بصلاحيات فوق دستورية، بل هو موظف سيادي رفيع يخضع للمحاسبة السياسية والبرلمانية، ويُقيَّم على أساس الإنجاز والالتزام لا الولاء أو النفوذ.

  1. الوزارات – من مراكز سلطة إلى دوائر خدمة عامة

تُعاد هيكلة الوزارات بوصفها أدوات تخصصية لتنفيذ السياسات، لا مراكز سلطوية تكرّس النفوذ. ويُبنى عملها على:

تعيين الوزراء عبر آليات شفافة ومعلنة تضمن الكفاءة والنزاهة؛

الفصل الوظيفي الدقيق بين المهام، لتجنّب التضارب والتداخل؛

فرض ضوابط رقابية إدارية ومالية من خارج الجهاز التنفيذي (هيئات مستقلة)؛

تحويل العلاقة بين الوزير والمواطن من علاقة تراتبية إلى علاقة خدمة ومسؤولية.

  1. الهيئات التنفيذية المستقلة – الضمان المؤسسي للحياد والكفاءة

تشمل هيئات مثل:

مفوضية الانتخابات؛

هيئة مكافحة الفساد؛

هيئة التخطيط الاستراتيجي؛

جهاز الرقابة العامة؛

وكلها:

تُنشأ بقانون خاص؛

تُعيَّن قياداتها من قبل جهات متعددة (رئاسة الدولة، البرلمان، القضاء) لمنع الاحتكار؛

تُمنح استقلالًا ماليًا وإداريًا؛

وتخضع لتقارير أداء دورية تنشر علنًا وتناقش أمام البرلمان.

  1. الإدارة المحلية – تجسيد للامركزية التنفيذية ضمن وحدة الدولة

يتم انتخاب المحافظين ورؤساء المجالس المحلية من قبل المواطنين مباشرة، وتُمنح الإدارات المحلية صلاحيات تنفيذية واسعة ضمن الإطار الوطني العام، بما يضمن:

عدالة التوزيع الجغرافي للسلطة؛

كفاءة اتخاذ القرار المحلي؛

تشاركية مجتمعية فعلية في صناعة القرار؛

ربط الرقابة بالاحتكاك المباشر مع المواطن.

رابعًا: آليات الرقابة والتوازن داخل السلطة التنفيذية

لمنع انحراف الجهاز التنفيذي عن وظيفته التعاقدية، يتم تفعيل أربع دوائر رقابية رئيسية:

  • الرقابة البرلمانية: استجوابات – لجان تحقيق – سحب الثقة – مساءلة دورية.
  • الرقابة القضائية: القضاء الإداري – المحكمة الدستورية – ديوان المحاسبة.
  • الرقابة المجتمعية: منظمات المجتمع المدني – الصحافة – شكاوى المواطنين.
  • الرقابة الرقمية: بوابة حكومية شفافة تكشف كل بيانات العمل التنفيذي للمواطنين.

خامسًا: المسار الانتقالي لتشكيل الجهاز التنفيذي

حكومة انتقالية محددة المهام والصلاحيات يتم تشكيلها عبر توافق وطني مؤقت؛

مؤتمر تأسيسي سيادي يُشرف على وضع القواعد المؤسسية للسلطات ويضع خارطة زمنية للتدرج؛

بناء جهاز إداري محايد ومهني عبر آليات توظيف شفافة وتدريبية مركزية؛

إجراء انتخابات تشريعية ومحلية متزامنة تؤدي إلى انتخاب برلمان وتشكيل حكومة دائمة؛

تثبيت هيئات الرقابة المستقلة قبل تثبيت الجهاز التنفيذي لضمان التوازن منذ اللحظة الأولى.

خاتمة الفصل:

بهذا التأسيس الجديد للسلطة التنفيذية، نكون قد وضعنا اللبنة الأولى في البنية المؤسسية للدولة السيادية، على أسس متوازنة تدمج بين الفاعلية والمشروعية، بين المركزية السيادية واللامركزية الوظيفية، وبين الحماية المؤسسية من الاستبداد والقدرة على اتخاذ القرار. ويُمهّد هذا التصور الطريق نحو الفصل الثاني، حيث ننتقل من السلطة المنفّذة إلى السلطة المشرّعة، لنُكمل بناء منظومة الحكم من قاعدة الإرادة الشعبية إلى آلياتها النيابية.