القسم الخامس
الفصل الأول من الفعل الجمعي إلى الفعل الفردي
تفكيك الديناميكية الطائفية وبناء المسؤولية المدنية
مقدمة الفصل
حين اندلعت الحرب في سوريا، لم تكن مجرد حرب على السلطة،
ولا فقط ثورة ضد نظام سياسي مستبد،
بل كانت، في أعماقها،
تفجرًا للطاقة الكامنة في الفعل الجمعي اللاواعي،
ذلك الفعل الذي تغلغل عقودًا في بنية المجتمع السوري،
باسم الطائفة، أو العشيرة، أو الإقليم، أو العقيدة.
لقد كنا -ولا نزال- أبناء جماعاتٍ تحكمها روابط الانتماء الأولي،
أكثر مما تحكمها مبادئ المواطنة الحرة والعقلانية السياسية.
وحين تهدمت قشرة الدولة القسرية،
خرجت هذه البنى الماقبل وطنية إلى السطح،
وأعادت إنتاج العنف لا كحوادث معزولة، بل كفعل جمعي عام،
حيث الذوبان في الجماعة، وتبرير العنف باسم الهوية،
صارا قاعدة لا استثناءًا.
في هذا الفصل،
نسعى إلى فهم الجذور العميقة لهذه الظاهرة:
كيف تحول الفعل الجمعي إلى قوة تدميرية؟
كيف طغى منطق الجماعة على مسؤولية الفرد؟
وكيف يمكن اليوم تفكيك هذا المنطق،
لنعيد تأسيس ثقافة سياسية مدنية،
تستند إلى الفرد المسؤول، لا إلى الجماعة الغريزية؟
لأن سوريا لن تنهض من جديد
ما لم تتحرر من عبودية الفعل الجمعي،
وتؤسس مجتمع الأفراد الأحرار،
لا قطعان الطوائف والعشائر والقبائل.
أولًا: الفعل الجمعي – تعريفه وتحولاته في السياق السوري
- 1. ما هو الفعل الجمعي؟
الفعل الجمعي هو حالة ذوبان الإرادة الفردية ضمن جماعة متخيّلة أو فعلية،
حيث تصبح الهوية الجمعية معيار الحكم على المواقف والأفعال،
وحيث يختفي الفرد كمصدر مستقل للقرار والأخلاق والمسؤولية.
لا يعود الإنسان يُسأل: “ماذا فعلتَ أنت؟”،
بل يُسأل: “ماذا فعل أبناء طائفتك؟”،
ولا يُحاسب بناءً على اختياراته،
بل بناءً على انتمائه الأصلي.
وبذلك يتحول الاجتماع الإنساني من مجتمع أحرار،
إلى حشود متنازعة تُساق بالولاء والخوف والكراهية.
- 2. تطور الفعل الجمعي في المجتمع السوري
في سوريا، نشأ الفعل الجمعي عبر مراحل متتابعة:
المجتمع التقليدي:
حيث كانت العشيرة والطائفة والإقليم مصدر الهوية الأبرز،
وكان الولاء للجماعة يسبق الولاء لأي مفهوم وطني أو قانوني.
الدولة السلطوية:
التي لم تعمل على تفكيك هذه الهويات،
بل قامت بتوظيفها بعناية لإحكام السيطرة،
فأبقت المجتمع هشًا، منقسمًا، مستعدًا للانفجار عند أول صدمة.
مرحلة الثورة والحرب:
حين تلاشت قبضة الدولة القسرية،
وانفجرت الهويات الطائفية والمناطقية،
وسادت منطق الفعل الجمعي كآلية وحيدة للفهم والدفاع والهجوم.
- 3. خصائص الفعل الجمعي السوري
الانصهار الهوياتي:
يتم ذوبان الفرد داخل الجماعة إلى حد إنكار ذاته المستقلة.
العداء القَبَلي للآخر:
لا يُرى الآخر كفرد له حقوق، بل كجزء من جماعة معادية بالضرورة.
التبرير الجمعي للعنف:
كل عنف يُرتكب باسم الجماعة يصبح مشروعًا بل ومقدسًا.
غياب المسؤولية الأخلاقية الفردية:
لا أحد يحاسب نفسه على ما يفعل،
بل يحاسب نفسه على “ولائه للجماعة” فقط.
ثانيًا: أثر الفعل الجمعي على الهوية الوطنية والمسؤولية المدنية
- 1. تحطيم الهوية الوطنية
حين يسود الفعل الجمعي، تتآكل فكرة الوطن:
الوطن يُختزل في الطائفة أو الإقليم.
المواطن يتحول إلى جندي في معركة هويات فرعية.
الدولة تصبح ميدان صراع جماعات لا بيتًا مشتركًا للجميع.
وبهذا،
تُفقد سوريا معناها كوطن جامع،
وتتحول إلى فسيفساء متنازعة،
كل قطعة فيها ترى نفسها أمة مكتملة ومظلومة في آن معًا.
- 2. سحق فكرة المسؤولية المدنية
المسؤولية المدنية تعني أن كل فرد:
مسؤول عن أفعاله أمام القانون والمجتمع،
مسؤول عن الإسهام الإيجابي في المجال العام،
مسؤول عن حماية الحريات والحقوق العامة،
مسؤول عن نقد جماعته حين تخطئ، لا التواطؤ معها.
لكن الفعل الجمعي يقضي على هذا المعنى:
فالفرد يصبح مجرد تابع، صوته خافت،
وجوده مرهون برضى الجماعة عنه،
ونجاته مربوطة بمدى خضوعه لقوانين القبيلة والطائفة.
ثالثًا: تفكيك ديناميكية الفعل الجمعي – طريق الخلاص الوطني
- 1. النقد العلني للجماعة
لا نهضة دون ممارسة النقد العلني:
نقد انحرافات الطائفة أو العشيرة أو الجماعة.
رفض التواطؤ الجمعي الصامت مع الظلم.
كسر ثقافة “نحن دائمًا ضحية” و”هم دائمًا جلادون”.
النقد هنا ليس عداءً للجماعة،
بل تحررًا منها نحو فضاء المواطنة الحرة.
- 2. إعادة تأسيس المسؤولية الفردية
المطلوب هو بناء ثقافة تقول:
“أنا أتحمل مسؤوليتي كفرد”،
“لا يمثلني ظالم ولا جلاد”،
“لا أتحمل ذنب طائفتي، بل أتحمل فقط ذنب ما أفعل أنا”.
بهذا فقط، يمكن استعادة المعنى الأخلاقي للوجود السياسي والاجتماعي.
- 3. تفكيك السرديات الطائفية والمناطقية
يجب:
رفض الروايات التي تبرر جرائم جماعة باسم “مظلوميتها”.
كشف عمليات غسل الأدمغة الجماعية.
تحرير العقل الجمعي من أساطير الحق المطلق أو الضحية المطلقة.
لا تطهير جماعي ممكن دون تفكيك الخطاب الذي غذى الفعل الجمعي لعقود.
رابعًا: بناء ثقافة الفعل الفردي في دولة العقد الاجتماعي
- 1. المواطنة أساس كل انتماء
الفرد السوري يجب أن يتعلم أن انتماءه الأساسي هو:
إلى الدولة الوطنية،
إلى العقد الاجتماعي،
إلى قيم الحرية والكرامة والمساواة،
لا إلى الطائفة أو العشيرة أو الحزب.
- 2. القانون فوق العصبيات
لا حماية للفرد إلا بالقانون،
ولا عدالة إلا حين يكون القانون هو السيد الوحيد،
بعيدًا عن منطق “الأقوى”، أو “الأكثر عددًا”، أو “الأكثر سلاحًا”.
- 3. مؤسسات تحمي الفرد لا تسحقه
قضاء مستقل.
أمن مدني محترف.
إعلام حر.
مجتمع مدني قوي.
كلها ضرورات لهندسة مجتمع لا تحكمه ولاءات العصبية،
بل رابطة المواطنة الحرة.
خاتمة الفصل
إن معركة النهضة السورية تبدأ من هنا:
من معركة تفكيك الفعل الجمعي القاتل،
وبناء مسؤولية فردية حرة مسؤولة.
إننا لا نهدف إلى تفكيك الجماعات بمعنى إلغائها ثقافيًا أو اجتماعيًا،
بل إلى تحرير الأفراد من السجن الهوياتي القسري،
وجعل كل مواطن سيد مصيره،
شريكًا متساويًا في صناعة العقد الوطني الجديد.
فقط عندما يغدو السوري فردًا حرًا،
لا تابعًا أعمى لجماعته،
يمكننا أن نتحدث عن ميلاد وطن جديد،
دولة جديدة،
ونهضة سورية حقيقية تستحق أن يُقاتَل من أجلها.