القسم الثالث – الباب الأول
الفصل الأول من الرفض إلى التأسيس
الفعل النهضوي كتحوّل من النقد إلى البناء
تمهيد:
لا تبدأ النهضة من لحظة إسقاط النظام فحسب، بل من لحظة القدرة على تجاوز معارضته بوصفه “موضوعًا للنقض” إلى مساءلته بوصفه “نتاجًا لبنية”، ومن ثم التحرّر من شروطه التي شكّلت الوعي العام لعقود.
إنَّ مواجهة الاستبداد لا تكفي لتأسيس دولة. فالرفض الأخلاقي والسياسي مطلوب، لكنه لا يُنتج بذاته مشروعًا نهضويًا.
وحده التحوّل من النقد إلى البناء، من الشك إلى التأسيس، من إسقاط النظام إلى إنتاج عقد اجتماعي بديل، هو الذي يحوّل لحظة السقوط من فرصة فوضوية إلى لحظة تأسيس تاريخي.
أولًا: مساءلة الفعل المعارض – حين تتحول الثورة إلى مرآة للنظام
لم تكن المعارضة السورية تقف دومًا على الضفة الأخرى من منطق السلطة.
ففي كثير من الأحيان، تبنّت خطابها، استبطنت أدواتها، وتحوّلت إلى مجرد صورة مقلوبة عنها: سلطة دون دولة، هوية دون تعدد، نكاية دون مشروع.
من هنا، لا يكفي أن نعارض النظام، بل يجب أن نتحرّر من شروط إنتاجه داخل وعينا.
فالاستبداد لا يسقط تمامًا حين يسقط النظام، بل حين تُعاد صياغة الفعل السياسي خارج منطق الضرورة والغلبة والطائفية والانتهازية.
ثانيًا: الواقعية المسمومة – وهم السياسة بوصفها إدارة للخراب
واحدة من أخطر أدوات إعادة إنتاج الفشل في مرحلة ما بعد السقوط هي “الواقعية”.
الواقعية التي تبرّر التحالف مع أمراء الحرب، وتبرّر تهميش القيم لصالح “الظروف”، وتؤجل العدالة باسم “المصلحة”، وتُحوّل العقد الاجتماعي إلى مزيج هشّ من الترضيات والانتهازات.
لكن الدولة لا تُبنى بهذه الطريقة.
فالواقعية التي تُبرّر القبح بدل أن تعالجه، وتُدير الخراب بدل أن تغيّره، ليست واقعية، بل انخراط في العبث.
نحن بحاجة إلى واقعية أخلاقية، تؤمن بالممكن الواقعي لا بالمُراد المتوهم، لكنها لا تتنازل عن جوهر المبادئ كمرجعية سيادية.
ثالثًا: نحو دولة مساءَلة لا دولة تمجيد
في المشروع النهضوي، لا أحد فوق النقد، ولا أحد محصّن ضد المساءلة، حتى من حمل السلاح ضد الاستبداد.
الشرعية لا تُمنح مرة واحدة.
والدولة لا تُبنى على “تضحيات”، بل على مسؤوليات، ولا على “بطولات”، بل على توازنات ومؤسسات.
إنَّ ما بعد الاستبداد لا يُدار بمنطق المظلومية، بل بمنطق الشراكة في صناعة المستقبل.
رابعًا: استعادة الإنسان من قبضة الشعار
لقد تحوّلت الكرامة إلى شعار، وتحولت الثورة إلى ماركة، وتحولت المعاناة إلى وقود للمساومات.
ولذلك، لا بد من إعادة تعريف الفعل الوطني باعتباره مشروعًا لتحرير الإنسان من عبودية الأدوات، لا لتقييده باسم الأهداف.
الإنسان هو الغاية، والحرية ليست شعارًا في الدستور، بل بنية في الدولة.
خامسًا: ملامح التأسيس الجديد – من الهدم إلى البناء
إن التحوّل من ثورة إلى دولة يقتضي خمسة تحولات معرفية وسياسية كبرى:
- من الرفض إلى التأسيس: الرفض شرط أول، لكن التأسيس هو الغاية.
- من الفعل الغريزي إلى المشروع الممنهج: لا تنهض الأمم بردود الفعل، بل برؤى متكاملة.
- من الاحتجاج إلى العقد الاجتماعي: لا قيمة لغضب بلا صياغة، ولا لثورة بلا دستور.
- من الثأر إلى العدالة: الدولة لا تُبنى على الحقد، بل على إعادة التوازن والحق.
- من الذات الجماعية الغاضبة إلى الأمة المؤسسة: الشعب ليس حالة شعورية، بل فاعل تاريخي عليه أن يتحوّل إلى جماعة تعاقدية منظمة.
خاتمة الفصل:
ما بعد الاستبداد ليس زمن الانتصار، بل زمن السؤال:
أيّ دولة نريد؟ وعلى أي عقد نؤسسها؟ ومن نُشرك؟ ومن نُقصي؟ وما الذي نحرّمه؟ وما الذي نسمح به؟ وما الذي نراهن عليه؟
هذه الأسئلة لا يُجيب عنها السلاح، ولا تُحسم في المؤتمرات، بل تُبنى عبر نقاش وطني سيادي أخلاقي جامع، ينتج ميثاقًا جديدًا، ويُطلق الدولة من أسر الطوائف والانقلابات والهويات القاتلة.