web analytics
القسم الرابع – الباب الثالث

الفصل السابع الأخلاق المدنية

من الانضباط القسري إلى المسؤولية الواعية

مقدمة

ليست الأخلاق المدنية قائمة على أوامر عليا، ولا على خوف مزروع، بل على وعي داخلي ينظّم السلوك العام طوعًا، لا قسرًا.

في الدولة السليمة، لا تحتاج القوانين إلى سيوف دائمة، لأن المجتمع ذاته يُنتج الانضباط من خلال معاييره الجماعية، وثقافته السلوكية، وإحساس أفراده بالمسؤولية المشتركة.

أما في سوريا، فقد فُرض الانضباط طويلًا بوسائل القمع:
المواطن لا يلتزم لأنه مقتنع، بل لأنه خائف،
لا يحترم النظام العام لأنه يقدّره، بل لأنه لا يريد العقاب،
وحين غاب الردع السلطوي بفعل الحرب، انهار السلوك العام لأنه لم يكن نابعًا من ضمير جماعي متماسك.

ومن هنا، فإن إعادة بناء سوريا لا تبدأ فقط من السلطة القضائية أو الأمنية، بل من إعادة تشكيل الضمير العام على أساس القيم المدنية والمواطنة الحيّة.

 أولًا: الانضباط القسري في ظل النظام

  1. القانون كأداة خوف لا كضابط مشترك
    لم يكن القانون وسيلة عدل، بل ذريعة للقمع الانتقائي.
    ساد منطق: “كن مع النظام، وافعل ما تشاء”، مقابل “خالفه، تُعاقب بلا قانون”.
  2. التطبيع مع العنف بوصفه أداة تربوية وسلطوية
    بدأ ذلك من المدارس: العقاب البدني، الإذلال، الصراخ.
    واستمر في الشارع: الإهانة، التهديد، التحكّم بالناس من دون مرجعية أخلاقية.
  3. إنتاج نموذج الفرد المطيع المزوّد بثقافة الخوف
    لا يُبادر، لا يُسائل، لا يتحمّل مسؤولية عامة.
    كل سلوك إيجابي مرهون بالمراقبة، لا بالقناعة.

 ثانيًا: التفكك الأخلاقي في ظل الفوضى

  1. غياب السلطة كشف ضعف البنية القيمية للمجتمع
    ظهر العنف كأداة تعامل يومية،
    وبرزت الأنانية كقاعدة سلوك،
    وسقطت المحرّمات بمجرد غياب العقوبة.
  2. انتقال الناس من الخوف إلى الفوضى، لا إلى الحرية
    لأن السلوك لم يكن مؤسسًا على قناعة أخلاقية، بل على ضبط خارجي.
  3. استثمار بعض القوى في إشاعة ثقافة الانفلات تحت شعار “التحرر
    غُيّبت الحدود بين الفعل المشروع والفعل المدمر.

 ثالثًا: الأخلاق المدنية – مقاربة بديلة

  1. هي أخلاق نابعة من التفاعل المجتمعي لا من الإملاء الفوقي
    تُنتجها المشاركة، والنقاش العام، والشعور بالانتماء.
  2. تقوم على مفاهيم مركزية:
    المسؤولية: أنت مسؤول عمّا تفعل حتى لو لم يُراقبك أحد.
    الاحترام: الآخر ليس خصمًا، بل شريكًا في المجال العام.
    المصلحة العامة: ما ينفع الجميع، يجب أن يكون مفضّلًا على ما ينفع الفرد فقط.
  3. تفترض وجود فضاء مدني حر
    لا يمكن لأخلاق مدنية أن تتجذر في مناخ قمعي.
    الانضباط الواعي يتطلب حرية، والثقة لا الخوف.

 رابعًا: كيف نُعيد إنتاج السلوك المدني في سوريا الجديدة

  1. تربية مدنية تبدأ من المدرسة والأسرة
    تعليم الأطفال قيم النزاهة، التعاون، احترام القانون، والحقوق المتبادلة.
    تحويل القواعد السلوكية من تعليمات إلى نقاشات تُنتج اقتناعًا ذاتيًا.
  2. تحصين الفضاء العام بقواعد احترام متبادل
    قوانين واضحة ضد الإهانة، التمييز، التحريض، والإقصاء.
    حملات توعية مجتمعية تعيد الاعتبار لقيم المسؤولية والانضباط الذاتي.
  3. بناء ثقافة الاعتذار والتصحيح الذاتي
    الاعتراف بالخطأ فضيلة، لا مهانة.
    الدولة والمواطن كلاهما مسؤولان عن السلوك العام.
  4. مكافأة الفعل الإيجابي، لا فقط معاقبة السلبي
    تكريس نماذج مدنية يُحتذى بها،
    تقدير من يُبادر إلى الصالح العام.

  خامسًا: الأخلاق كضمانة سيادية

  • لا دولة مستقرة دون مجتمع يُنتج أخلاقًا مدنية من داخله.
  • ولا قانون فعّال دون ضمير جماعي يُراقب السلوك قبل السلطة.
  • لذلك، تُعدّ الأخلاق المدنية أحد أعمدة السيادة المعنوية التي تحمي الدولة من التفكك، والمجتمع من الفوضى.

 خاتمة الفصل

الانضباط الحقيقي لا يُصنَع في مراكز الشرطة، بل في الضمير.
والاحترام لا يُفرض، بل يُكتسب من خلال التربية، والثقة، والمعنى المشترك.

في سوريا الجديدة، نريد مواطنًا لا يخاف من القانون، بل يحترمه لأنه يؤمن به،
ونريد سلوكًا عامًا لا يُنتج من الردع، بل من الشعور العميق بالمسؤولية عن الآخر، وعن الوطن، وعن الذات.