web analytics
القسم التاسع – الباب الخامس

الفصل السابع عشر السياسة البيئية

من الاستنزاف إلى الاستدامة السيادية

مقدمة تأسيسية: حين يُصبح الهواء والماء والتربة جزءًا من معادلة السيادة

في دول ما بعد الاستبداد، غالبًا ما يُنظر إلى البيئة على أنها ترف فكري، أو هامش لا أولوية له، أو مسألة مؤجلة لما بعد “الاستقرار”.

لكن في مشروع النهضة، البيئة ليست قطاعًا قابلًا للتأجيل، بل هي منبعٌ من منابع السيادة نفسها.

فالهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والأرض التي نزرعها، والغابات التي تحمينا، والجبال التي تحيط بنا، والموارد الطبيعية التي نملكها… كلّها ليست مجرد عناصر طبيعية، بل مجالات قرار سياسي، ومساحات سيادة، ومصادر أمن قومي ومعيشي.

في سوريا، لم تكن البيئة تحظى بأي مكانة في هندسة الدولة.
بل عانت من الإهمال، والانتهاك، والتجريف، والتسييس، والنهب، والخصخصة، والجهل المنهجي.

– أُزيلت الغابات لصالح المحسوبين،
– سُمّمت الأنهار دون رقابة،
– تدهورت التربة الزراعية بفعل الاستخدام العشوائي،
– تم إهمال إدارة المياه الجوفية،
– وتحوّلت مشاريع الري إلى أدوات فساد،
– وأُدير ملف الطاقة بمنطق الريع لا الاستدامة،
– وتُركت النفايات الخطرة بلا معالجة،
– وانتهك الهواء النظيف في المدن بسبب الفوضى المرورية والصناعية.

ومع الحرب، تضاعفت الكارثة:
– تحوّلت البيئة إلى ساحة قتال،
– تم استخدام الأراضي كمكبات عشوائية،
– وفقدت الدولة أي قدرة على التخطيط البيئي أو الحوكمة المستدامة.

من هنا، فإن مشروع النهضة يُعيد وضع البيئة في موقعها السيادي الحقيقي،
لا كملف إداري، بل كأحد أركان النهضة ذاتها، وشرطها الأخلاقي–المعرفي، ورافعتها المادية والمعنوية.

أولًا: تشريح الاستنزاف البيئي في التجربة السورية

  1. انعدام السياسات الوقائية

لم تكن هناك سياسة وطنية لإدارة الموارد الطبيعية، ولا دراسات تأثير بيئي، ولا آليات لمراقبة الانبعاثات، ولا حوكمة لموضوع النفايات أو الطاقة أو استخدام الأراضي.

  1. التسييس والفساد في إدارة الموارد

تم توزيع حقوق الرعي، واستثمار المقالع، واستخدام المياه، بشكل زبائني.
وتم تفريغ المؤسسات البيئية من كفاءاتها، وتحويلها إلى واجهات تجميلية.

  1. المركزية المعطّلة

لم تُمنح البلديات أي صلاحيات بيئية حقيقية،
وظلّت القرى والمناطق الريفية والبادية بلا تخطيط بيئي،
رغم أنها الأكثر تضررًا من تغيّر المناخ وتدهور الموارد.

  1. غياب العدالة البيئية

تحمّل الفقراء والمهمشون العبء الأكبر:
– في مناطق السكن غير المنظم،
– في القرى التي تعتمد على مياه ملوثة،
– في العمل في الصناعات الخطرة،
– وفي السكن قرب المكبات أو في مناطق التلوث.

ثانيًا: فلسفة البيئة في مشروع النهضة – من التبعية إلى الاستدامة

  1. البيئة ركيزة سيادية

كل قرار بيئي هو قرار سيادي:
– في المياه،
– في الزراعة،
– في الطاقة،
– في الصحة العامة،
– وفي علاقتنا بالاتفاقيات الدولية.

فالسيادة لا تعني فقط رفض التدخل، بل امتلاك القرار في كيفية إدارة ثرواتنا الطبيعية بطريقة تحمي وجودنا الجماعي.

  1. الاستدامة كأفق تنموي وأخلاقي

لا يُبنى الاقتصاد على حساب البيئة،
ولا تُستثمر الأرض اليوم بما يُدمّر مستقبل الغد،
بل تُعاد صياغة العلاقة بين التنمية والبيئة على قاعدة التوازن، والتخطيط، والتجديد.

  1. اللامركزية البيئية

يُمنح المجتمع المحلي القدرة على حماية بيئته،
– في المياه،
– والطاقة،
– والنفايات،
– والتخطيط العمراني،
مع مراقبة وطنية تؤمّن المعايير، وتحمي التوازن.

  1. العدالة البيئية

يُعاد توزيع العبء البيئي،
وتُحمى المجتمعات الهشة من التعرض المتكرر للمخاطر،
وتُبنى سياسات تعويض ودعم للمناطق الأكثر تدهورًا.

ثالثًا: السياسات التنفيذية للاستدامة السيادية والعادلة

  1. إصدار “الميثاق الوطني للعدالة البيئية والاستدامة

يُقرّ أن البيئة ليست شأنًا إداريًا، بل ركيزة من ركائز السيادة

يُربط بالدستور

يُلزم جميع الوزارات والمجالس بإدماج البُعد البيئي في كل السياسات والخطط

  1. تأسيس “الهيئة العليا للاستدامة والسيادة البيئية

هيئة مستقلة، ترتبط بالمجلس الوطني

صلاحياتها:

المراقبة،

التقييم،

الرقابة على المشاريع،

نشر التقارير السنوية،

دعم البلديات والمجالس المحلية في خطط الاستدامة

تمثيل سوريا في الاتفاقيات البيئية الدولية

  1. إنشاء “صندوق البيئة السيادية

يُموّل من:

الضرائب على الانبعاثات والمقالع

الرسوم البيئية على الشركات

المنح الدولية

يُستخدم لدعم مشاريع:

الطاقة المتجددة

الزراعة المستدامة

إدارة النفايات

التعليم البيئي

إعادة تأهيل الأنهار والوديان والغابات

  1. إصلاح سياسة المياه والطاقة

مراجعة كاملة لاستخدام المياه الجوفية والسطحية

تطوير شبكات الري المستدام

تحفيز التحول إلى الطاقة الشمسية والرياح

تخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري

تنظيم استخدام الأراضي الزراعية–السكنية–الصناعية

  1. العدالة المناخية في التخطيط

تقييم الأثر المناخي لكل مشروع وطني

إدراج المناطق الهشة بيئيًا في خطط الأولوية الوطنية

تقديم تعويضات وتنمية خاصة للمناطق المتضررة من الجفاف، التصحر، التلوث، الحروب البيئية

خاتمة تأسيسية

في سوريا الجديدة، لا يكون الاستقلال منقوصًا،
إن لم نملك هواءً نظيفًا،
وتربةً حية،
وماءً لا يُباع،
وغابات لا تُنهب،
وأرضًا تُزرع لا تُستثمر لغيرنا.

فالسيادة لا تعني فقط رفض الاحتلال، بل امتلاك قدرتنا على حماية ما نحيا به، ونعيش عليه، ونورثه لأبنائنا.

والبيئة، كما نراها، ليست قطاعًا في وزارة، بل ضمير الدولة، ورئتها، وذاكرتها البيولوجية، ومختبر كفاءتها الأخلاقية.

ومن بين الغبار والخراب،
نزرع غابة،
ونحفر بئرًا،
ونُنقذ جدولًا مائيًا،
ونقول: هكذا تُبنى السيادة من تحت، من التراب، من النسغ، من النهر، من الورقة الخضراء.