القسم الخامس
الفصل السابع عشر من الثقافة الطائفية إلى الثقافة الوطنية
تفكيك البنية الذهنية وإعادة بناء الوعي العام
مقدمة الفصل
حينما تنهار الدولة الوطنية، لا يكون السقوط سياسيًا أو أمنيًا فحسب، بل ثقافيًا أولًا.
فالثقافة، بوصفها الوعاء العميق الذي يُشكل الوعي الجمعي، هي التي تحدد طبيعة الانتماء، ونوعية الولاء، وحدود التصور الجماعي للذات والآخر.
وفي سوريا، كانت الثقافة الطائفية إحدى أهم الأدوات التي مهدت للانهيار، إذ أُنتج وعيٌ جمعي مشوه، يرى في الطائفة أو العشيرة أو الجماعة الأولية مركز العالم، ويقيس الانتماء والعداوة بناءً على الهوية لا على القيم أو الحقوق أو المصالح الوطنية.
فالثقافة، بوصفها الوعاء العميق الذي يُشكل الوعي الجمعي، هي التي تحدد طبيعة الانتماء، ونوعية الولاء، وحدود التصور الجماعي للذات والآخر.
إن الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حقيقية لا يمكن أن يتحقق دون عملية جراحية عميقة لهذا الوعي:
تفكيك الثقافة الطائفية التي كرست العصبيات والانقسامات.
وإعادة بناء ثقافة وطنية مدنية، تقوم على الندية بين المواطنين، وعلى الانتماء الحر للعقد الاجتماعي الجامع.
هذا الفصل يسعى إلى تفكيك البنية الذهنية الطائفية التي رسخها الاستبداد والحرب، ويضع اللبنات الأولى لبناء ثقافة سياسية–وطنية جديدة، تشكل الخلفية الثقافية لمشروع النهضة السورية.
أولًا: السمات البنيوية للثقافة الطائفية
الثقافة الطائفية ليست مجرد شعور بالانتماء الديني أو المذهبي، بل هي منظومة قيمية وسلوكية كاملة تتجسد في:
مركزية الهوية الطائفية: حيث تصبح الطائفة المرجعية العليا لكل انتماء سياسي أو اجتماعي أو حتى أخلاقي.
نفي الآخر: إذ يتم تصوير المختلف طائفيًا كتهديد وجودي دائم يجب الحذر منه أو معاداته أو استئصاله.
تبرير الظلم الداخلي: يتم التغطية على فساد النخب الداخلية للطائفة بذريعة “الخطر الخارجي”، مما يحمي الطغاة الصغار داخل الجماعات.
القداسة الموهومة للجماعة: حيث تتحول الجماعة إلى قيمة عليا فوق الأخلاق وفوق القانون وفوق الإنسان الفرد.
تأليه الزعامة الطائفية: إذ تصبح قيادات الطائفة، السياسية أو الدينية، رموزًا مقدسة لا يجوز نقدها مهما أخطأت.
بهذه البنية المغلقة، تُغلق كل إمكانيات الإصلاح الداخلي، ويُعاد إنتاج العصبية، جيلاً بعد جيل.
ثانيًا: كيف صنعت السلطة السورية الثقافة الطائفية؟
لم تكن الثقافة الطائفية نتاج المجتمع وحده، بل كانت نتاجًا لسياسات واعية مارستها السلطة:
توظيف الطائفية كأداة للسيطرة: عبر تحييد بعض الطوائف وتفضيلها وظيفيًا في مؤسسات الدولة مقابل قمع طوائف أخرى أو إقصائها.
تكريس الطائفية في أجهزة الأمن والجيش: بحيث ارتبطت أدوات العنف الرسمية بانتماءات طائفية محددة، ما جعل الدولة نفسها تبدو وكأنها جهاز طائفي.
زرع الخوف المتبادل بين الطوائف: بحيث يصبح بقاء كل طائفة مرتبطًا ببقاء النظام، في علاقة تبادلية شيطانية.
استثمار الخطاب الديني الطائفي: حين استخدم النظام الطقوس والشعائر الدينية بشكل مصلحي لتعزيز الانقسامات، ولتشويه صورة الخصوم السياسيين.
هذه السياسات أنتجت ثقافة عامة لا ترى في الدولة إطارًا محايدًا بل أداة بيد طائفة ضد أخرى.
ثالثًا: آثار الثقافة الطائفية على المجتمع السوري
لقد أنتجت الثقافة الطائفية آثارًا كارثية متسلسلة، منها:
تفكيك الشعور الوطني العام: لم يعد الانتماء لسوريا فكرة وجدانية موحدة، بل أصبحت سوريا “فسيفساء متنافرة” من هويات متوجسة.
تحويل الاختلاف إلى صراع وجودي: لم يعد التنافس السياسي قائمًا على البرامج والرؤى بل على صراعات هوية.
عجز القوى السياسية عن تأسيس مشروع وطني جامع: لأن كل طرف سياسي كان يُتهم تلقائيًا بأنه يمثل طائفته لا مشروعًا عامًا.
استدامة العنف الأهلي: لأن الطائفية خلقت شبكات ثأر وانتقام ممتدة أعمق من أي خلاف سياسي أو عسكري مباشر.
رابعًا: تفكيك الثقافة الطائفية – الخطوات الضرورية
لا يمكن الاكتفاء بإدانة الثقافة الطائفية؛ بل لا بد من تفكيكها منهجيًا عبر:
تعريتها أخلاقيًا: بإبراز تناقضها مع مبادئ العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.
كشف توظيفها سياسيًا: بفضح كيف كانت الطائفية أداة لمصالح فئوية سلطوية لا تعبر عن مصلحة الطوائف الحقيقية.
تأسيس خطاب مدني جامع: يرتكز على المواطنة كهوية عليا فوق كل الانتماءات الفرعية.
تبني برامج تربوية وإعلامية جديدة: تزرع قيم التعددية وقبول الآخر، وتكسر الصور النمطية حول الطوائف المختلفة.
تحييد الدين عن السياسة: بحيث يُعاد للدين دوره الروحي والأخلاقي دون أن يكون أداة للصراع على السلطة.
تعزيز الحريات الفردية: فحرية الاعتقاد والانتماء تحمي الأفراد من الاستتباع الجماعي القسري.
خامسًا: ملامح الثقافة الوطنية البديلة
لبناء سوريا الحديثة، نحتاج إلى ثقافة وطنية جديدة تحمل الخصائص التالية:
الهوية الوطنية الجامعة: هوية تقوم على مفهوم المواطن، لا على رابطة الدم أو المذهب أو العرق.
الاعتراف بالتنوع مع حماية الوحدة: حيث يحترم التنوع الثقافي والديني ضمن إطار عقد اجتماعي يساوي بين الجميع.
تقديس القانون بدل العصبية: حيث يصبح القانون مرجعية عليا فوق الانتماءات الأولية.
تشجيع النقد الذاتي والتعددية الفكرية: كأدوات لمواجهة التكلسات الثقافية وإنتاج وعي مدني حي ومتجدد.
إعادة تعريف القيم الأخلاقية: بما يجعل الكرامة الإنسانية، والحرية، والعدالة، معايير عليا فوق كل ولاء فرعي.
خاتمة الفصل
إن الخروج من مستنقع الطائفية ليس مجرد مطلب سياسي أو قانوني، بل معركة ثقافية كبرى.
فما لم يتحرر الوعي الجمعي السوري من أسر العصبيات الطائفية والعشائرية، سيظل المشروع الوطني هشًا، وستظل الدولة معرضة للانفجار مع كل أزمة.
إن مشروع النهضة السورية لا يمكن أن يتحقق إلا ببناء ثقافة وطنية جديدة،
ثقافة تعيد الإنسان السوري إلى موقعه كفرد حر، لا مجرد رقم في قطيع،
ثقافة تؤسس لانتماء طوعي حر، يتجاوز الهويات المغلقة نحو وطن يليق بتضحيات أبنائه وتاريخهم وآمالهم.