القسم السابع – الباب الأول
الفصل السادس اللامركزية البنّاءة
من الهامش إلى شريك القرار
أولاً: من المركزية السلطوية إلى التفكيك المتوازن للسلطة
سوريا ما بعد الاستقلال لم تعرف معنى اللامركزية الفعلية.
فمنذ اللحظة الأولى، تكرّست هيمنة العاصمة على باقي المحافظات،
وأُنتجت بنية سياسية–إدارية اختزلت الدولة في المركز،
والقرار في القيادة،
والثروة في العاصمة،
والتخطيط في النخبة.
المركزية هنا لم تكن خيارًا إداريًا، بل أداة تسلط،
جُرّدت عبرها المحافظات من صلاحياتها،
وتم تهميش المجتمعات المحلية،
وأُفرغت البلديات من مضمونها،
وصار الوطن أشبه بملحق إداري لسلطة وحيدة.
ولهذا، فإن أي مشروع نهضة لا يمكن أن يُبنى على إعادة إنتاج هذه البنية،
بل يجب أن يبدأ بتفكيك المركزية السلطوية،
وتأسيس لامركزية بنّاءة… ليست تمردًا على الدولة، بل إعادة توزيع لشرعيتها.
ثانياً: اللامركزية ليست تقسيماً… بل توسيع للسيادة
كثيرًا ما يُشوَّه مفهوم اللامركزية،
فتُصوّر على أنها مشروع تقسيم،
أو تهديد لوحدة الدولة،
أو تمهيد لفيدراليات انفصالية.
لكن في فلسفة الدولة النهضوية،
اللامركزية لا تعني الانقسام، بل التوزيع،
لا تعني إضعاف المركز، بل تحصينه عبر الشراكة،
لا تعني تعدد الولاءات، بل توسيع الشرعية الوطنية لتشمل الجميع.
اللامركزية هي السبيل الوحيد لتحويل المواطنين من متلقّين للقرار… إلى شركاء فيه،
ولتحقيق العدالة بين المناطق،
ولكسر النمط السلطوي الذي يُراكم النفوذ في يد واحدة، على حساب الجميع.
ثالثاً: مبادئ اللامركزية في الدولة السورية الجديدة
لكي تكون اللامركزية عامل وحدة لا فرقة،
وجب أن تُبنى على منظومة واضحة من المبادئ، أبرزها:
كل محافظة أو وحدة محلية تملك صلاحيات إدارية وتنموية فعلية، لا رمزية أو شكلية.
تُحدَّد الصلاحيات المنقولة من المركز إلى الجهات المحلية عبر قوانين دستورية لا تقبل التأويل.
تنتخب المجالس المحلية بطريقة مباشرة وشفافة، وتُمنح القدرة على إدارة الشأن المحلي دون وصاية.
تُوزّع الموارد المالية بعدالة وفق معايير سكانية وتنموية، وليس بناءً على الولاء السياسي.
تُبنى هياكل الرقابة من الأسفل، بحيث يُحاسب المسؤول المحلي من قِبل من انتخبه.
تُفكك الهرمية الإدارية لصالح شبكات تفاعلية بين المركز والمحيط.
يتم الربط بين اللامركزية الإدارية واللامركزية التنموية، بحيث لا تتحوّل إلى مجرد “إدارة للفقر المحلي”.
رابعاً: خارطة عملية لإعادة توزيع الصلاحيات
في سبيل تحويل هذه المبادئ إلى خطوات فعلية قابلة للتطبيق،
يجب إعادة هندسة العلاقة بين المركز والمحافظات عبر محاور عملية واضحة:
في قطاع التعليم: تمنح الإدارات المحلية صلاحية تصميم المناهج المكمّلة وفق خصوصية كل منطقة، ضمن إطار وطني مشترك.
في قطاع الصحة: تُعطى المحافظات الصلاحيات الكاملة لإدارة المؤسسات الصحية، وتوزيع الموارد الطبية، والتعاقد مع الكوادر.
في قطاع النقل والخدمات: يكون لكل محافظة سلطة رسم السياسات المحلية لشبكات النقل، والصرف الصحي، والخدمات الأساسية.
في قطاع الاستثمار والتنمية الاقتصادية: تُنشأ هيئات تنمية محلية مستقلة ذات صلاحيات حقيقية لجذب الاستثمارات ومراقبة الأداء الاقتصادي.
في التخطيط الحضري: تُمنح البلديات والمجالس المحلية صلاحية إعداد المخططات التنظيمية، ومشاريع الإسكان، وبرامج البنية التحتية.
خامساً: ضمانات وحدة الدولة ضمن اللامركزية
حتى لا تتحوّل اللامركزية إلى مدخل للتشرذم أو التفلت،
يجب وضع ضمانات دستورية تضمن الحفاظ على وحدة الدولة:
تُقيَّد اللامركزية بسيادة الدستور، ولا تتجاوز العقد الوطني.
لا تمتلك أي وحدة محلية الحق في تعطيل القوانين العامة أو الانفصال الرمزي أو الفعلي.
تُبنى شبكة تنسيقية بين المركز والمحافظات، تضمن التواصل المستمر، والتكامل في القرار.
تحتفظ الدولة المركزية بملف السياسة الخارجية، والدفاع، والعملة، والسيادة الوطنية.
تُبنى هوية وطنية جامعة تُغني التعدد، وتمنع انزلاق اللامركزية إلى تنازع هويات.
سادساً: من التهميش إلى الشراكة – اللامركزية كأداة مصالحة وطنية
في بلد كُسرت فيه الجغرافيا،
وتم تهميش أطرافه لعقود،
تُعدّ اللامركزية بوابة لمصالحة وطنية حقيقية.
فحين يشعر أبناء الحسكة، ودرعا، والسويداء، ودير الزور،
أن صوتهم حاضر في القرار،
وأن مواردهم تُدار محليًا،
وأن لا جهة تحتكر حيواتهم من بعيد…
يبدأ الوطن في التشكل كجسد واحد.
اللامركزية بهذا المعنى ليست أداة إدارة فقط،
بل أداة عدالة،
وأداة بناء ثقة،
وأداة استعادة وطن، من أطرافه إلى قلبه.
ختام الفصل
اللامركزية التي نطرحها ليست توزيعًا إداريًا شكليًا،
ولا تحايلًا دستوريًا على التهميش،
ولا توظيفًا سياسيًا لتسكين الغضب.
بل هي جزء من الرؤية الكاملة لهندسة الدولة السورية القادمة،
دولة تقوم على العقد لا القسر،
وعلى التوازن لا التسلط،
وعلى الشراكة لا التهميش.
فقط حين تتوزع السلطة كما تتوزع الحياة،
وحين تتحول الجغرافيا من هامش إلى شريك،
نكون قد بدأنا رحلة استعادة سوريا… بكل أبنائها، وكل تنوعها.