القسم العاشر – الباب الثاني
الفصل السادس عدالة التوزيع وتوازن التنمية
من المركزية إلى النمو المتكافئ
نحو بناء نموذج اقتصادي–تنموي متوازن يعالج الفجوات ويعيد إنتاج الترابط الوطني
أولًا: الإشكالية – مركزية التنمية كأداة تمييز وتهميش
على مدى عقود، تحوّلت التنمية في سوريا إلى عملية مركزية مفرطة، تُدار من العاصمة وتُموَّل بحسب اعتبارات الولاء السياسي أو الانتماء الأمني، ما أدى إلى انفجار الفوارق المناطقية، واختلال البنية التحتية، وتضخم الفجوة بين الأطراف والمركز.
وهكذا نشأت منظومة اقتصادية–إدارية لا تنتج فقط تباينًا في مستوى الخدمات والدخل، بل تنتج شعورًا باللاانتماء، والتهميش، والغبن التاريخي.
وقد كان هذا أحد الأسباب الكامنة وراء تفتت المشهد الوطني، وتحوّل بعض المناطق إلى بيئات ناقمة أو منغلقة أو خارجة عن السيطرة.
ثانيًا: التحديات البنيوية أمام تحقيق توازن التنمية
تركّز الاستثمار والخدمات والبنية الاقتصادية في المحور المركزي (دمشق–حمص–حلب).
تغييب دور المحافظات والأرياف والبلدات النائية عن التخطيط والقرار الاقتصادي.
التمييز غير المعلن في السياسات والتمويل والبنية التحتية على أساس سياسي–أمني–طائفي.
انهيار قطاعات اقتصادية كاملة في بعض المناطق نتيجة الإقصاء والإهمال الطويل.
غياب منظومة مؤسسية لقياس التوازن أو تصحيح انعدام العدالة التنموية.
ثالثًا: المعالجة – من مركزية الدولة إلى توزيع السلطة والموارد والمسؤولية
تحقيق عدالة التوزيع وتوازن التنمية لا يعني فقط نشر المشاريع في الأطراف، بل يتطلب إعادة هيكلة العقل الاقتصادي ذاته، وفق القواعد التالية:
الربط بين التنمية والسيادة الوطنية: لا يمكن لدولة أن تكون مستقرة وهي مبنية على اقتصاد طفيلي متمركز في العاصمة.
توزيع التخطيط لا فقط التنفيذ: العدالة تبدأ حين تكون المحافظات شريكة في رسم السياسات، لا مجرد منفذة لها.
التنمية بوصفها وظيفة أمنية اجتماعية: توازن النمو ليس رفاهية، بل أداة استقرار مجتمعي وسياسي طويلة الأمد.
رابعًا: خطوات العمل لبناء نموذج تنموي متوازن وعادل
1. إقرار مبدأ “عدالة التوزيع” كجزء من العقد الاجتماعي الجديد
تضمين نصوص دستورية تُلزم الحكومات بتحقيق التوازن التنموي، وربط التمويل بمؤشرات الإنصاف.
إنشاء هيئة وطنية عليا للعدالة الاقتصادية–المجالية، مستقلة، وتصدر تقارير سنوية ملزمة.
2. توزيع التخطيط التنموي على المستوى المحلي
نقل جزء كبير من صلاحيات التخطيط الاستثماري إلى مجالس المحافظات المنتخبة.
وضع خطط تنمية محلية بثلاثية (احتياجات – موارد – فرص)، تُدمج لاحقًا في الرؤية الوطنية.
تمكين المجالس المحلية من إدارة نسبة من الموارد المالية وتحديد أولويات التنمية.
3. تحقيق الإنصاف في توزيع البنى التحتية والموارد
تنفيذ خريطة استثمار وطني موزّعة جغرافيًا، مع إعطاء الأولوية للمناطق المنسية.
تخصيص نسبة إلزامية من موازنات الدولة للمناطق ذات المؤشرات الأدنى في التنمية والخدمات.
إعادة هيكلة الخدمات العامة (الصحة – التعليم – النقل – الاتصالات) وفق مبادئ التوازن لا الكثافة السكانية فقط.
4. خلق محركات اقتصادية محلية تكاملية
دعم القطاعات المحلية المحورية في كل منطقة (زراعة – صناعات تحويلية – سياحة – حِرف).
تحفيز تأسيس شركات محلية وتعاونيات مجتمعية تشغّل اليد العاملة وتعيد توزيع الدخل.
تخصيص صناديق تمويل مناطقية، تُدار من قبل المجالس المحلية بشراكة مع الحكومة المركزية.
5. مأسسة أدوات الرقابة والتصحيح التنموي
وضع مؤشرات معيارية لقياس العدالة في التوزيع والإنفاق العام.
إصدار تقرير وطني سنوي حول “العدالة الاقتصادية والتنموية”، يتضمّن تقييمات، فجوات، توصيات.
منح المواطنين والأجسام المحلية حق تقديم شكاوى وتوصيات في حال حدوث تمييز أو تقصير.
خامسًا: الخطة التنفيذية المرحلية
- المرحلة الأولى (أشهر 0–12)
صياغة الخريطة الوطنية للتنمية المتوازنة.
إنشاء الهيئة العليا للعدالة التنموية.
إدراج مبدأ العدالة في الموازنات العامة والخطط الاستثمارية.
- المرحلة الثانية (سنة 1–3)
نقل صلاحيات التخطيط التنموي إلى الإدارات المحلية.
تنفيذ الدفعة الأولى من المشاريع التوزيعية الإنصافية.
إطلاق مؤشرات التوازن التنموي ومراقبتها ميدانيًا.
- المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)
مراجعة شاملة لأداء الجهات الحكومية في تنفيذ العدالة التنموية.
تطوير الخريطة الاستثمارية اعتمادًا على التغذية الراجعة المحلية.
إدماج العدالة التنموية ضمن تقارير المحاسبة السياسية والبرلمانية.
سادسًا: التنمية المتكافئة كشرط للتماسك الوطني
إن الخلل في توزيع التنمية لا يولّد الفقر فقط، بل يولّد الغضب والقطيعة والتفكك، وهو ما عاشته سوريا مرارًا.
ولذلك، فإن تحقيق العدالة التنموية ليس مجرد بند اقتصادي، بل هو بند سيادي ووطني وأخلاقي في صلب مشروع النهضة السورية.
وفي النظام الجديد، لن تُقاس أهمية المحافظة بقربها من العاصمة، ولا حقها بمقدار ولائها، بل تُقاس بقيمة إنسانها، وعمق دورها، واحتياجاتها الفعلية، وموقعها في بناء الدولة الجامعة.