web analytics
القسم الثاني – الباب الأول

الفصل السادس الهوية والانتماء

من الإقصاء الرمزي إلى العقد الوطني الجامع

مدخل فلسفي–اجتماعي:

في كل مجتمع منكوب بالاستبداد،
تتحوّل الهوية من فضاء مشترك إلى سلاح رمزي،
ومن مكوّن إنساني جامع،
إلى أداة تفريق،
ومن سؤال مشروع: “من نحن؟”
إلى معركة خاسرة: “من له الحق بأن يكون نحن؟”

وفي سوريا، لم يكن الصراع على الأرض فقط،
بل على الرمز، والتاريخ، والانتماء.
تمّت مصادرة الهوية من قِبل السلطة،
ثم من قبل المعارضة،
ثم من قِبل الجماعات المتطرفة،
حتى فقد السوريون القدرة على تعريف أنفسهم خارج منطق الانتماء القسري، أو النفي المتبادل.

ولذلك، فإن أي مشروع نهضوي لا بد أن يبدأ بإعادة بناء الهوية،
لا كشعار سياسي،
بل كـعقد إنساني، اجتماعي، ووطني جامع.

أولًا: تآكل الهوية في التجربة السورية – من التنوع إلى الإقصاء

سوريا ليست دولة قومية مغلقة،
ولا طائفية نقية،
بل هي مجتمع مركّب،
متعدد الطوائف، والأديان، والقوميات، والمناطق، والثقافات.

لكن بدلاً من الاعتراف بهذا التعدد،
اختارت السلطة منذ عقود أن:

  • تُعرّف الهوية بمرجعية واحدة (القومية العربية)،
  • تهمّش الجماعات غير العربية،
  • تُقصي الكرد، وتُخرِس الآشوريين، وتُهمّش التركمان،
  • وتُوظّف الطوائف إما عبر التهميش أو عبر الاحتواء المشروط.

وبدلًا من أن تكون الهوية فضاء انتماء مشترك،
أصبحت:

  • إما هوية الحزب،
  • أو هوية الطائفة،
  • أو هوية الأغلبية المفترضة.

وهكذا، صار من لا يشبه المركز… يُقصى رمزيًا، ويُشكَّك بولائه و”سوريّته“.

ثانيًا: الثورة وإعادة فتح سؤال “من نحن؟” – لحظة كشف لا إجابة

مع اندلاع الثورة، انفتحت الهوية السورية على ذاتها… وانكشفت:

  • تصدّعت الوحدة الهشّة.
  • عادت الطوائف إلى التمترس.
  • ارتفعت أصوات الهوية القومية والإثنية.
  • وشعر كثيرون بأنهم غرباء في وطن لم يعترف بهم يومًا.

لكن هذا ليس فشلًا، بل فرصة:
لأن ما كان مسكوتًا عنه، صار معلنًا،
وما كان مضغوطًا، صار مكشوفًا،
وما كان زائفًا، انهار.

ولذلك، فإن مشروع النهضة يجب ألا يسعى إلى إعادة الهوية الموحّدة بالقوة،
بل إلى بناء هوية حقيقية:
متعددة، حُرّة، ومُتّفِق عليها.

ثالثًا: من هو السوري؟ – تفكيك السؤال لبناء الجواب

أن تكون سوريًا لا يعني:

  • أن تنتمي إلى دينٍ معيّن،
  • أو طائفة محددة،
  • أو عِرق واحد،
  • أو لهجة العاصمة،
  • أو الولاء لحاكم.

أن تكون سوريًا يعني:

  • أنك مواطن كامل الحقوق،
  • شريك في السيادة،
  • محترم في انتمائك،
  • متساوٍ أمام القانون،
  • ومشارك في تقرير مصير وطنك.

الهوية السورية يجب أن تُبنى على الانتماء المدني–الوطني،
لا على التطابق في اللون أو اللسان أو المذهب.

رابعًا: العقد الوطني الجامع – نحو تعريف جامع للهوية السورية

نقترح في هذا المشروع تعريفًا تأسيسيًا للهوية السورية:

الهوية السورية هي انتماء مدني–سياسي نابع من التعاقد الحر بين أفراد المجتمع السوري،
تقوم على الاعتراف الكامل بالتعدد الثقافي والديني واللغوي،
وتؤسس لشراكة متساوية في الحقوق والواجبات والسيادة.

بهذا:

  • لا يُقصى أحد.
  • لا يُحتكر الوطن.
  • لا تُفرض هوية، ولا يُلغى انتماء.
  • ولا تبقى الدولة رهينة هوية مصنّعة فوقيًّا أو إرث سلطوي.

خامسًا: خطوات عملية لبناء هوية وطنية جامعة

  1. دسترة التعدد الثقافي واللغوي والديني.
  2. الاعتراف الرسمي باللغة الكردية كلغة وطنية موازية، وغيرها من اللغات الأصلية.
  3. إلغاء المركزية الرمزية للسلطة في التمثيل الهوياتي.
  4. إعادة كتابة التاريخ الوطني برؤية جامعة لا إقصائية.
  5. تعزيز تمثيل كل المكونات في الحياة العامة، لا بالشعارات بل بالمؤسسات.
  6. دعم الإعلام والتعليم والفن كمساحات لصناعة هوية تعددية واعية.
  7. الابتعاد عن الخطابات القومية–الدينية الإقصائية التي اختطفت الهوية لعقود.

خاتمة الفصل: الهوية كجسر لا كجدار

الهوية ليست تعريفًا نهائيًا،
ولا إجماعًا قسريًا،
بل مسار مستمر من التفاهم، والنقاش، والتعاقد، والتشارك.

ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يسعى إلى إنتاج “هوية رسمية”،
بل إلى تحرير المجتمع من الإقصاء الرمزي،
وإعادة بناء الوطن على قاعدة:
أنك سوري، لأنك هنا، لأنك تريد، لأنك تشارك
لا لأنك تُشبه “النموذج“.

فقط حين نفكك الهويات المفروضة،
ونبني هوية جامعة من تحت،
تولد سوريا الجديدة:
كثيرة الألوان… واحدة في الكرامة.