القسم الثالث – الباب الثاني
الفصل السادس استعادة السياسة من قبضة الاستبداد
مقدمة تحليلية:
منذ منتصف القرن العشرين، لم تُمنح السياسة في سوريا دورها الطبيعي كفنّ لتنظيم الشأن العام وتوزيع السلطة ضمن أطر قانونية ومؤسسية.
بل تم اغتيالها بصورة ممنهجة:
أُغلقت الأحزاب، وقُمعت الحريات، وأُفرغ البرلمان من وظيفته، وتحول الفضاء العام إلى حقل ألغام، والسياسة نفسها إلى تهمة.
وما بدأه البعث من عسكرة السياسة ومسخها، استكمله النظام الأسدي بتحويل السياسة إلى امتياز أمني مغلق، وساحة ولاء لا ساحة تنافس، حيث كل اختلاف يُساوي تخريبًا، وكل معارضة هي مقدّمة للعمالة.
وفي هذا السياق، تحوّلت الأجيال إلى جمهور منزوع الفاعلية، محروم من أدوات التمثيل، فاقد للثقة بالسياسة، يرى السلطة قدَرًا، والدولة وهمًا، والمشاركة خطرًا.
أولًا: تفكيك آليات اختطاف السياسة
لقد تحقّق اختطاف السياسة في سوريا عبر أدوات متشابكة، أبرزها:
- الحزب الحاكم كبديل عن الدولة: حيث أصبح حزب البعث لا يمثّل تيارًا، بل يحتكر الولاء، والتعليم، والإعلام، والتوظيف، والهوية السياسية.
- إغلاق المجال الحزبي: عبر تجريم التنظيم، وشيطنة التعددية، وربط المعارضة بالتدخل الخارجي.
- تحويل النقابات إلى أذرع أمنية: فأصبحت أدوات مراقبة لا أدوات تمثيل، تفصل لا توحّد، تُجمّد لا تطوّر.
- شيطنة المصطلحات: كأن تُصبح “الحرية” كلمة مشبوهة، و”الانتخابات” مسرحية محسومة، و”التمثيل” تفويضًا أمنيًا.
- القضاء على الفضاء العام: بإغلاق الصحف، ومصادرة الإعلام، ومراقبة المساجد، وتطويع الجامعات، وشيطنة المنتديات.
ثانيًا: الحرب كامتداد للاستبداد السياسي
حين اندلعت الثورة، لم يُسمح للسياسة بالعودة، بل تحوّل السلاح إلى أداة تمثيل، والقوة العسكرية إلى وسيلة تعبير.
فتم استبدال الحزب الواحد بفصائل متعددة، لكن من دون مشروع سياسي وطني جامع، بل بمشاريع سيطرة محلية، وولاءات خارجية، وتنازع على الجغرافيا والموارد لا على المبادئ.
وساهمت المعارضة التقليدية بدورها في تعميق أزمة السياسة، حين فشلت في إنتاج قيادة وطنية، وانقسمت على أساس الولاء لا على أساس الرؤية، وراهنت على الخارج بدل أن تستثمر في الداخل.
وهكذا، لم تُستعَد السياسة، بل أُعيد توزيع اختطافها بأسماء وأشكال جديدة.
ثالثًا: الحاجة إلى ثورة سياسية ثانية
إن استعادة السياسة لا تعني فقط إسقاط الاستبداد، بل تعني إعادة بناء الفضاء السياسي من الجذور:
- تحرير الوعي من الخوف: عبر تربية مدنية جديدة ترى السياسة حقًا لا مؤامرة.
- إعادة الاعتبار للفعل التمثيلي: بإنشاء بنى حزبية ومجتمعية تعبّر عن الناس لا عن الرعاة الخارجيين.
- فتح المجال العام للتداول والنقاش الحر: وإسقاط ثقافة “الزعيم” و”الرمز” و”المرجعية المطلقة”.
- ربط السياسة بالأخلاق والمصلحة العامة، لا بالمناصب أو المحاصصة أو الغلبة.
- فك الارتباط بين العنف والسياسة: فالسلاح لا يبني دولة، والخوف لا يصنع شرعية.
رابعًا: السياسة كحق وواجب سيادي
في الدولة النهضوية، السياسة هي ملكٌ عام، لا امتياز حزبي ولا إقطاع نخبوي.
هي المجال الذي يشارك فيه الجميع بصفتهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
ولا يمكن الحديث عن عقد اجتماعي، أو مواطنة، أو سيادة، ما لم يتم تحرير السياسة من الاختطاف الذي أُخضعت له منذ الاستقلال.
وهذا يتطلب:
- منظومة قوانين تحمي التعددية ولا تقمعها.
- مؤسسات مستقلة تنظم الحياة السياسية بعيدًا عن الأجهزة الأمنية.
- إعلامًا حرًا يراقب، لا يُطبّل.
- أحزابًا تُبنى على البرامج، لا على الولاء.
- تعليمًا مدنيًا يُربّي على الحوار، لا على الطاعة.
خاتمة الفصل:
السياسة هي قلب الدولة.
وإذا ظلّت مختطفة، فإن كل ما نبنيه سيكون هشًا، معرّضًا للارتداد نحو العنف أو التوريث أو الانقسام.
إن استعادة السياسة من قبضة الاستبداد ليست خطوة تكميلية في مشروع النهضة، بل هي مفتاح كل تغيير حقيقي.
ومن دونها، ستبقى سوريا في دائرة الطغيان مهما تغيّر الاسم أو الشكل أو الدستور.