web analytics
القسم الأول

الفصل السادس عشر البيئة والموارد في سوريا

 من الإهمال إلى النهب الممنهج

مدخل فلسفي–تشريحي:

لم تكن البيئة في سوريا هامشًا في معادلة الدولة والمجتمع،
بل كانت على الدوام مرآةً دقيقةً لطبيعة السلطة،
ولعلاقة الإنسان بأرضه،
وللرؤية السياسية التي تحكم منطق التنمية أو تدميرها.

في الأنظمة الحديثة، تُعامل البيئة بوصفها حاضنة الحياة، ومجالًا سياديًا، وبنية تحتية للتنمية.

أما في سوريا، فقد جرى التعامل مع البيئة والموارد الطبيعية بمنطق الغنيمة أو التجاهل أو الاستخدام الأمني–الرمزي.

حتى تحوّلت البلاد إلى أرض منهكة،
مُجرفة،
منهوبة،
تحتضر بصمت.

أولًا: الغياب التاريخي للسياسة البيئية – من الاستقلال إلى البعث

منذ ولادة الدولة السورية الحديثة،
لم تُشكّل البيئة بندًا حقيقيًا في أولويات السياسات العامة.
وباستثناء بعض المبادرات الزراعية والتنظيمية المحدودة،
فقد ظلّ الهم البيئي تابعًا للقطاع الزراعي أو العمراني، لا مجالًا سياديًا مستقلًا.

جاء البعث، لا ليُصلح ذلك،
بل ليُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والطبيعة من منظور أيديولوجي–أمني،
فأصبحت الموارد:

  • إما ملكًا للدولة تُستثمر سياسيًا،
  • أو منسيّة، تُستنزف بلا مساءلة،
  • أو تُوظف رمزيًا في الخطاب لا في التنمية.

ثانيًا: تدهور البنية الطبيعية – من التصحر إلى التلوث إلى الكارثة

شهدت سوريا خلال عقود البعث والأسد:

  1. تراجعًا حادًا في الرقعة الخضراء بفعل سياسات التصحر وتهميش الريف.
  2. استنزافًا للمياه الجوفية من خلال مشاريع ريّ كارثية، بلا خطط تجديد أو حماية.
  3. تلويثًا واسعًا للمياه والتربة والهواء، نتيجة الصناعات غير المنظمة وغياب الرقابة.
  4. إهمالًا للغابات، وإعادة تصنيفها في كثير من الأحيان لأغراض استثمارية.
  5. بناء عشوائي متسارع دمّر المساحات الزراعية ومحيطات المدن، خاصة حول دمشق وطرطوس وحمص.
  6. غياب سياسة نفايات وطنية، وترك المدن والقرى تحت رحمة التخبط أو الفوضى.

إذ لم يكن الإهمال عرضًا، بل سياسة،

ولم يكن التدمير نتيجة، بل أداة إدارة للفضاء البيئي كامتداد لمنظومة الهيمنة.

الذي اعتبر الأرض موردًا للاستغلال لا فضاءً للحياة.

ثالثًا: الحرب كأداة تفجير بيئي – من تدمير الأرض إلى تلويث الهواء والتربة

مع اندلاع الثورة ثم الحرب، تحوّلت سوريا إلى مسرح مفتوح للدمار البيئي:

  • تم قصف الحقول الزراعية والمشاريع المائية.
  • احترقت مساحات خضراء هائلة في الشمال والساحل بفعل القصف أو التجاهل المتعمد.
  • تلوّثت مصادر المياه نتيجة تخريب البنية التحتية.
  • ظهرت مراكز صهر المعادن العشوائية، التي ساهمت بتسميم التربة والهواء.
  • انتشرت أنشطة استخراج غير قانونية للموارد، من مقالع وحفريات ومصافي نفط بدائية، خلّفت تدميرًا بيئيًا طويل الأمد.
  • تفكك نظام إدارة النفايات تمامًا، وظهرت مكبّات خطرة غير خاضعة لأي رقابة.

وبات المواطن السوري، وخاصة في المناطق الخارجة عن السيطرة المركزية،
يعيش في بيئة مهددة،
تُعرض صحته وسلامته وحياته للخطر.

رابعًا: غياب العدالة البيئية – من التفاوت المناطقي إلى استثمار الإهمال

لم يكن الضرر البيئي متساويًا في كل الجغرافيا السورية.
فقد شهدت بعض المناطق، وخاصة تلك المهمّشة أو المعارضة للنظام، إهمالًا متعمدًا أو تدميرًا مباشرًا للبنية البيئية:

  • دُمّرت البنى الزراعية في دير الزور، الرقة، إدلب، وريف حماة.
  • تمت إعادة تخصيص المياه وفق منطق الهيمنة السياسية، لا وفق معيار الاستحقاق أو التوازن البيئي.
  • حُرمت قرى بأكملها من شبكات الصرف، أو مصادر الطاقة البديلة، أو الدعم البيئي، لأسباب سياسية أو طائفية.
  • وظهرت نخب مستفيدة من إعادة تخصيص الأراضي أو تهريب الموارد (مثل الحطب والنفط) بشكل منهجي.

خامسًا: تفكك الرؤية السيادية للبيئة – من التنمية إلى السيطرة

في العالم الحديث، البيئة تُعامل كمسألة أمن قومي،
أما في سوريا، فقد كانت أداة تحكّم أمني.

  • من يحصل على الرخصة؟
  • من يُمنح قطعة أرض؟
  • من يُحرم من مياه الري؟
  • من يُنقل إلى منطقة صناعية سامة؟
    كلها قرارات لم تكن بيئية، بل سياسية–أمنية–انتقائية.

وهكذا، تمّ تفكيك الرؤية السيادية للبيئة،
وصار الوعي البيئي نفسه يُعامل كترف نخبوي،
أو كتهمة “مشبوهة”.

بل تحوّل إلى مجال تُرصد فيه النوايا،

ويُعاقَب فيه الناشطون بتهم ‘المساس بالروح الوطنية’.

سادسًا: البيئة كمجال للنهضة – من الهامش إلى المركز

في مشروع النهضة السورية،
لا تُعامل البيئة كمسألة تقنية،
بل كأداة للسيادة، للعدالة، وللحياة.

  • لا نهضة دون أرض قابلة للحياة.
  • ولا عدالة دون إنصاف بيئي.
  • ولا سيادة دون استعادة السيطرة على الموارد الطبيعية:
    • الماء،
    • الهواء،
    • التراب،
    • المساحات الخضراء،
    • ومناطق التوزيع العمراني.

ولهذا، فإن تشريح هذا المحور لا يُفصل عن أي محور آخر:
فالفقر البيئي يُنتج فقرًا اقتصاديًا،
والتهميش البيئي يُعيد إنتاج الهامش السياسي،
وتدمير الأرض هو تدميرٌ للإنسان نفسه.

خاتمة الفصل: البيئة ليست خلفية… بل هي أرض المعركة النهضوية

لا يمكن الحديث عن مشروع إنساني،
ولا عن دولة حديثة،
ولا عن مجتمع متماسك،
في أرض تئنّ من الجفاف، وتختنق بالدخان، وتُنهب مواردها دون رقيب.

ولهذا، فإن النهضة تبدأ من التربة، لا من الأعلى.
من الماء، لا من المكاتب.
من المساحات الخضراء، لا من شعارات التمدّن الفارغ.

البيئة هي شرط السيادة،
وساحة العدالة،
والمجال الأول لبناء سوريا القابلة للحياة.

ومن لا يحمي الأرض، لا يملك مستقبلًا، ومن لا يصون الحياة، لا يقدر على تمثيلها.”