القسم الثالث – الباب الرابع
الفصل السادس عشر تحرير الاقتصاد من قبضة السلطة والفساد
مقدمة تحليلية:
الاقتصاد ليس فقط معامل وأرقامًا، بل هو مرآة العلاقة بين المواطن والدولة، وميزان العدالة، وفضاء توزيع السلطة والثروة.
وفي سوريا، لم يكن الاقتصاد حرًّا ولا وطنيًّا، بل كان منذ عقود رهينة السلطة، وواجهة للنهب المنظّم، وأداة لتثبيت الاستبداد.
لقد تحوّل الاقتصاد السوري في عهد النظام إلى اقتصاد سلطوي زبائني، تُدار مفاصله بقرارات فوقية، وتُوزّع امتيازاته على أساس الولاء لا الكفاءة، وتُمنح فرصه للتابعين لا للمبدعين.
ثم جاءت الحرب، فزاد الطين بلّة، حين تفككت الدولة وتحوّل الاقتصاد إلى غنيمة للميليشيات، وروافد سلطوية عسكرية، وواجهة للتبييض، والتهريب، والتهرّب، والانقسام.
ولهذا، فإن أول مفاتيح النهضة الاقتصادية هو تحرير الاقتصاد من قبضة السلطة والفساد، وإعادته إلى وظيفته الأساسية: إنتاج الثروة، وخدمة المواطن، وحماية السيادة.
أولًا: معالم الاقتصاد السلطوي السوري قبل الحرب
- اقتصاد ريعي غير منتج: يعتمد على النفط، والتحويلات، والمعونات، لا على الزراعة والصناعة والتكنولوجيا.
- احتكار الموارد من قبل العائلة الحاكمة وحلقتها الضيقة: مثل شركات رامي مخلوف، وشركاء الأجهزة الأمنية.
- غياب الشفافية والمؤسسات الرقابية: فلا محاسبة، ولا إعلام اقتصادي حر، ولا منظمات مجتمع مدني قادرة على الرقابة.
- اقتصاد محكوم بالأجهزة الأمنية: حيث يُمنح الترخيص لمن يرضى عنه الأمن، وتُغلق الشركات لمن يُشتبه بمعارضته.
- فساد ممنهج لا فساد فردي: عبر شبكات تمويل وغسل أموال وربط التوظيف والعقود بالولاء السياسي والطائفي.
ثانيًا: اقتصاد ما بعد الحرب – من التفكك إلى الميليشيا
بعد 2011، دخل الاقتصاد السوري مرحلة أكثر خطورة:
- تفكيك الاقتصاد إلى مناطق نفوذ متصارعة: كل ميليشيا أو سلطة أمر واقع تفرض رسومًا، وجماركها، ونظامها المالي الخاص.
- ازدهار اقتصاد الحرب: التهريب، تجارة السلاح، النهب، السوق السوداء، المعابر الداخلية.
- التدخل الخارجي في مفاصل التمويل والإعمار: حيث تحوّلت بعض الدول إلى رعاة لمناطق اقتصادية مغلقة.
- تسييل الفساد في شكل مؤسسات: شركات واجهة، جمعيات دينية أو إنسانية للتمويل المشبوه، بنوك موازية.
- تحوّل الدولة إلى أداة لتمويل أمراء الحرب: عبر إعفاءات، احتكارات، أو صفقات بين رأس المال السياسي والميليشياوي.
ثالثًا: مقوّمات تحرير الاقتصاد في الدولة الجديدة
- فصل السياسة عن المال: وإنهاء التزاوج بين النفوذ السياسي والامتياز الاقتصادي.
- إعادة بناء مؤسسات رقابية مستقلة: مثل هيئة النزاهة، ديوان المحاسبة، مجلس المنافسة، الإعلام الاقتصادي الحر.
- محاسبة الفساد الماضي والحالي: من خلال لجان قضائية خاصة بجرائم الفساد المالي، تتبع الأموال المنهوبة وتستعيدها.
- كسر الاحتكارات القديمة والجديدة: ومنع تكوّن مراكز قوة مالية تعيد إنتاج الطغيان الاقتصادي.
- فتح السوق أمام الكفاءات لا الولاءات: وتحرير التراخيص، والمناقصات، والوظائف من هيمنة الأمن والحزب والطائفة.
رابعًا: الاقتصاد كأداة للسيادة لا التبعية
في مشروع النهضة، لا يُفهم الاقتصاد بوصفه “قطاعًا إداريًّا” فقط، بل كجبهة سيادية:
- لا يُمكن أن تكون الدولة مستقلة إذا كان قرارها الاقتصادي مرتهنًا للمُمول أو للدائن أو للمحتكر الداخلي.
- ولا يُمكن لعقد اجتماعي أن يستقر إذا كان جزء من المواطنين يملك كل شيء، وجزء آخر لا يملك حتى الأمل.
لذلك، فإن تحرير الاقتصاد هو أيضًا تحرير للقرار، وللكرامة، وللمستقبل.
خامسًا: التحوّل من اقتصاد الولاء إلى اقتصاد الإنتاج
- إعادة الاعتبار للزراعة والصناعة الوطنية.
- تشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة بوصفها رافعة العدالة والتنمية.
- تحفيز الاستثمار الحقيقي، لا الريعي أو الطفيلي.
- إرساء قوانين حماية المنافسة والملكية والشفافية.
- خلق بيئة اقتصادية آمنة للمواطن العادي، بعيدًا عن الابتزاز الأمني أو التمييز الطائفي.
خاتمة الفصل:
لا يمكن بناء وطن على اقتصاد مسروق، ولا يمكن حماية مواطن في ظل اقتصاد يُدار بعقلية الغنيمة والولاء.
ولهذا، فإن تحرير الاقتصاد من قبضة السلطة والفساد هو نقطة الانطلاق لكل مشروع نهوض حقيقي.