web analytics
القسم الثامن – الباب الثاني

الفصل العاشر بناء النظام القضائي الإداري ومحاكم المواطنين

مقدّمة تمهيدية:

إن بناء دولة القانون لا يتحقق فقط عندما يُحاسب الأفراد أمام الدولة، بل عندما تُصبح الدولة نفسها قابلة للمساءلة أمام المواطنين، عبر جهاز قضائي مستقل، متخصص، وفاعل، يُتيح للإنسان مقاضاة أي جهة تنفيذية عند أي اعتداء على حقوقه أو إخلال بالقانون.

وفي الدولة السورية الجديدة، التي يجب أن تُعاد صياغتها على أنقاض دولة الغلبة واللامسؤولية، فإن القضاء الإداري ليس تفصيلًا مؤسساتيًا، بل هو شرط وظيفي للسيادة القانونية، يُعيد التوازن بين المواطن والسلطة، ويمنع تغوّل الإدارة، ويجعل من الخدمة العامة مجالًا خاضعًا للمحاسبة لا للامتياز.

هذا الفصل يُقدّم خطة عملية لبناء قضاء إداري حقيقي، يضمن العدالة للمواطنين، ويُحوّل العلاقة بين الدولة ومواطنيها إلى علاقة قانونية تكافؤية، لا تسلطية.

أولًا: الوظيفة السيادية للقضاء الإداري

القضاء الإداري هو الجهاز المختص بالفصل في النزاعات بين الأفراد والسلطات الإدارية.

دوره لا يقتصر على إلغاء القرارات التعسفية، بل يشمل إعادة الاعتبار القانوني للمواطن، وتقييد الممارسات الإدارية الجائرة.

في النموذج السيادي، يُعد القضاء الإداري جزءًا من آليات الضبط الداخلي للدولة، يحدّ من السلطة التنفيذية، ويوجهها نحو احترام معايير الخدمة والمشروعية.

ثانيًا: البنية المؤسسية للقضاء الإداري

  1. المحكمة الإدارية العليا:

هيئة مستقلة عن القضاء العادي، تُشكّل قمة هرم القضاء الإداري؛

تختص بمراجعة الطعون على الأحكام الإدارية، وتفسير المبادئ الإدارية العليا؛

تُعد مرجعية وطنية في صياغة المعايير القانونية لإدارة الشأن العام.

  1. محاكم إدارية ابتدائية واستئنافية:

تُنشأ محاكم إدارية في جميع المحافظات، وتتدرج وظيفيًا كالتالي:

محكمة إدارية ابتدائية تختص بالنزاعات الفردية (فصل – ترخيص – خدمات – ضرائب – مخالفات)؛

محكمة استئناف إدارية تُراجع الأحكام الابتدائية؛

محكمة عليا تفصل في المبادئ العامة، وتُصدر التوجيهات الملزمة.

  1. دائرة قضايا الدولة (معدلة):

يتم فصلها عن وزارة العدل وتُعيد تعريف وظيفتها بوصفها ممثلًا محايدًا للإدارة، لا أداة قمع قانوني؛

تُلزم بالشفافية، وبالدفاع عن المصلحة العامة، لا مصلحة الأجهزة أو الأشخاص.

ثالثًا: اختصاصات القضاء الإداري

الطعون على القرارات الإدارية الجائرة (الترقيات – العقوبات – التراخيص – الخدمات العامة).

المنازعات الناشئة عن العقود الإدارية (المشاريع – التلزيم – التوظيف).

الدعاوى التعويضية عن الأضرار الناتجة عن قرارات إدارية خاطئة أو متعسفة.

الرقابة على أداء المؤسسات العامة في التزامها بالواجبات الدستورية.

مراجعة قانونية الأوامر الإدارية الأمنية والتنظيمية التي قد تمسّ بالحريات.

رابعًا: الضمانات البنيوية لاستقلال القضاء الإداري

يتم تعيين القضاة الإداريين من سلك خاص ضمن القضاء، بعد تدريب وتأهيل متخصص؛

يُشترط فيهم الخبرة الإدارية والقدرة على فهم طبيعة العمل الحكومي والرقابي؛

لا يُجيز القانون تدخل أي جهة تنفيذية في عملهم؛

تُدرج موازنتهم ضمن فصل مستقل مرتبط بالمجلس الأعلى للقضاء؛

يُجرى تقييم دوري لفعالية المحاكم الإدارية من قِبل لجنة محايدة مشتركة (قانونيون + ممثلون عن المجتمع المدني).

خامسًا: محاكم المواطنين – التأسيس المكمّل

تُنشأ إلى جانب المحاكم الإدارية محاكم المواطن بصيغة مُبسّطة، تُتيح:

التقدم بشكاوى دون محامٍ؛

المرافعة مباشرة أمام قاضٍ مختص؛

البت في الشكاوى الإدارية البسيطة خلال 15–30 يومًا؛

تعويض رمزي سريع عن الأضرار؛

إمكانية طلب تحويل الملف إلى محكمة إدارية عليا عند الحاجة.

تُنتشر هذه المحاكم في البلديات والمجالس المحلية الكبرى، وتُموّل من وزارة العدل لكنها تخضع إداريًا لمجلس القضاء الإداري.

سادسًا: خطة التفعيل التنفيذي

إصدار قانون تأسيسي متكامل للقضاء الإداري خلال أول 6 أشهر من المرحلة الانتقالية؛

تشكيل لجنة وطنية مستقلة لوضع الخطة القضائية التنفيذية للبنية الإدارية خلال 90 يومًا؛

إطلاق أول دفعة من القضاة الإداريين المدربين من المدرسة القضائية العليا خلال عام؛

افتتاح أول خمس محاكم مواطنين في المدن الرئيسية خلال السنة الأولى؛

إصدار التقرير السنوي الأول لأداء القضاء الإداري ونشره بشفافية كاملة.

خاتمة الفصل:

إن القضاء الإداري ليس مرفقًا ثانويًا في بنية الدولة، بل هو البوابة التي يدخل منها المواطن إلى المجال العام باعتباره شريكًا لا تابعًا، وندًّا للدولة في الحقوق والواجبات. وفي سوريا الجديدة، حيث يجب أن تُبنى العلاقة بين الناس والمؤسسات على الثقة، لا على الخوف، فإن هذا الجهاز يُجسّد سلطة القانون فوق القرار، ويجعل من المساءلة مسارًا يوميًا، لا لحظة استثنائية.

وباكتمال هذا الفصل، نكون قد أنجزنا الباب الثاني ، والذي أرسى منظومات الحماية الحقوقية والعدالة، وننتقل الآن إلى الباب الثالث: تأسيس بنية الأمن والخدمة العامة، حيث تبدأ الدولة بتأمين بيئة آمنة لإعادة الثقة، عبر بناء أمنٍ سيادي مدني، لا بوليسي ولا أيديولوجي.