web analytics
القسم الأول

الفصل العاشر السياسة الخارجية والدبلوماسية

من تمثيل الشعب إلى صفقات السلطة

مدخل فلسفي–سيادي:

الدبلوماسية ليست فقط ما يُقال في المؤتمرات،
بل ما تمثّله الدولة في العالم من نفسها.
فحين تكون الدولة ذات سيادة حقيقية،
تصبح سياستها الخارجية امتدادًا لإرادة شعبها،
وتصبح السفارات منصات تمثيل،
لا مكاتب تجسس،
ولا ساحات لتمجيد النظام،
ولا أدوات ابتزاز أو تواطؤ.

وفي سوريا، لم تُبنَ السياسة الخارجية بوصفها سياسة تمثيلية لأمة،
بل بوصفها أداة وظيفية لبقاء السلطة،
ووسيلة تفاوض من موقع ضعف داخلي مُقنّع،
يغطي هشاشته بشعارات كبرى، لا بعقيدة وطنية واضحة.

هذا الفصل يتناول كيف تحوّلت الدبلوماسية السورية من تعبير سيادي،
إلى ذراع تابعة لبنية الحكم،
وإلى وسيلة لمقايضة الداخل بالخارج،
حتى أصبحت السيادة نفسها مفهومًا شكليًا هشًا،
لا يقوم على العقد، بل على الخطاب.

أولًا: السياسة الخارجية كمرآة للعقد الوطني – حين يغيب الداخل، يفقد الخارج معناه

السيادة ليست امتلاكًا لحدود فقط،
بل تعبير عن إرادة سياسية نابعة من المجتمع.
وحين يغيب التمثيل الحقيقي في الداخل،
وحين يكون الحاكم غير منتخب،
وحين تُدار الدولة بمنطق السيطرة لا الشراكة،
فلا يمكن أن تكون السياسة الخارجية إلا امتدادًا لهذا التشوّه.

وفي سوريا، لم تكن هناك دبلوماسية تمثل الشعب،
بل أجهزة تمثل النظام أمام العالم،
وتشتغل وفق أولوياته الأمنية، لا مصالحه الوطنية.

  • السفارات أُفرغت من الكوادر المهنية،
  • السفراء عُيّنوا بناء على الثقة الأمنية، لا الكفاءة الدبلوماسية،
  • الدبلوماسية نفسها صارت بوقًا لخطاب داخلي مكرر:
    الوحدة – المؤامرة – الثبات – الصمود.

 ثانيًا: مفهوم السيادة في الخطاب السوري – من حق الأمة إلى ملكية النظام

في الفكر السياسي، السيادة هي:
الحق في القرار المستقل باسم الشعب،
وهي تقوم على ثلاث دعائم:

  1. تمثيل الشعب في القرار،
  2. استقلال القرار عن الخارج،
  3. ربط السياسة بالمصلحة الوطنية، لا ببقاء النظام.

لكن في الحالة السورية، تم تشويه المفهوم بالكامل:

  • اختُزلت السيادة في منع التدخل، لا في الاستقلال الفعلي.
  • تمّ تفريغ الشعب من دور السيادة، واحتكرها رأس النظام.
  • أصبحت السيادة خطابًا يُلوَّح به عندما يُطالب الداخل بالتغيير،
    بينما تُقدَّم على الطاولة في صفقات إقليمية لتأمين الدعم أو تمرير النفوذ.

وهكذا، تحوّل مفهوم السيادة من كونه عقدًا اجتماعيًا، إلى كونه “أداة حماية للسلطة من المجتمع“.

ثالثًا: علاقات النظام بالخارج – محاور التبعية بدل التحالفات السيادية

  1. العلاقة مع الاتحاد السوفيتي:
  • لم تكن تحالفًا بين دولتين، بل علاقة زبونية.
  • تسليح، تدريب، تبعية اقتصادية وفكرية.
  • لم تُنتج تنمية حقيقية، بل علاقات ارتكاز تمنع السقوط مقابل الطاعة.
  1. العلاقة مع إيران:
  • مع تحول المحور بعد 1979، أصبحت إيران الحليف العقائدي والأمني الأول.
  • لم تكن العلاقة سياسية فقط، بل مشروع اندماج سلطوي يحمل طابعًا مذهبيًا–أمنيًا، يخترق بنية القرار العسكري والديني، ويُعيد تشكيل الدولة كوكيل إقليمي ضمن محور لا يخدم مصالح السوريين.”
  • عمّقت الارتباط الإيديولوجي، وغذّت البنية الميليشياوية التي ظهرت لاحقًا.
  1. علاقة متوترة مع العرب:
  • تم استخدام الخطاب القومي لابتزاز الدول العربية،
  • وتم تمثيل سوريا بوصفها “قلب العروبة”،
    لكن عمليًا، تم خنق العرب داخل سوريا، وتفكيك عروبة الدولة لحساب النظام.
  1. العلاقة مع الغرب:
  • استُخدم ملف “الاستقرار الإقليمي” لتمرير القمع.
  • استخدمت دمشق علاقتها بحركات مثل “حزب الله” كأوراق تفاوض مع أمريكا وأوروبا.
  • أُدرجت ملفات الأمن والهجرة والإرهاب ضمن صفقات لا رؤية استراتيجية.

رابعًا: الدبلوماسية السورية – من التمثيل إلى التزييف

لم تكن وزارة الخارجية مؤسسة تمثيلية،
بل تحوّلت إلى جهاز علاقات عامة للسلطة:

  • الخطاب موحَّد، لا يعكس الواقع، بل يُلمّعه.
  • لا مبادرة دبلوماسية مستقلة، بل انتظار لقرار الأجهزة.
  • السفارات تحوّلت إلى مراكز مراقبة للمغتربين،
  • الدبلوماسيون موظفون بتقارير أمنية، لا بحقوق شعبهم.

وبذلك، غابت السياسة الخارجية كفعل،
وأصبحت لغة فارغة، تُعيد ما يُقال في الداخل، لكن بلغة أجنبية.

فلم تعد السياسة الخارجية تعكس سوريا كما هي، بل كما يريد النظام أن يراها العالم: خالية من الصوت، مملوكة من الأعلى، وخارج التاريخ.”

خامسًا: ارتدادات السياسة الخارجية على الداخل – السيادة كواجهة للاختناق

حين لا تُبنى السياسة الخارجية على التمثيل الحقيقي،
تتحوّل إلى أداة ضد الشعب:

  • تُستخدم السيادة لمنع الرقابة الدولية.
  • تُستخدم المعاهدات لتثبيت النفوذ الخارجي.
  • يُربَط ملف إعادة الإعمار بالولاء لا بالحاجة.
  • ويُفصَل المجتمع السوري في الخارج عن دولته،
    حتى يصبح مجرد “جالية” تابعة للسفارة، لا مواطنين لهم صوت في القرار.

وهكذا، تصبح السيادة قيدًا، لا حماية.
ويُستخدم الخارج لتثبيت الداخل، لا لتحريره.

خلاصة الفصل:

السياسة الخارجية السورية لم تُبنَ على التفاعل مع مصالح الشعب،
بل على إدارة علاقات النظام،
واستثمار الملفات الإقليمية كسلاح ضد الداخل، لا كأداة تحرير.

ولهذا، فإن مشروع النهضة لا يكتمل دون تحرير مفهوم السيادة نفسه،
وإعادة تعريف الدبلوماسية بوصفها حقًا للشعب، لا وكالة للنظام،
وصوتًا للمجتمع، لا لافتةً لتمديد الصمت.