القسم التاسع – الباب الثالث
الفصل العاشر السياسة الإسكانية
من العشوائيات إلى العمران السيادي
مقدمة تأسيسية: السكن ليس سقفًا، بل حق سياسي واجتماعي
في كل دولة تخرج من الاستبداد والحرب، يُطرح السكن كأحد تحديات البنية التحتية.
لكن في مشروع النهضة، لا نراه هكذا فقط، بل نراه بوصفه المعيار العملي الأول لصدقية الدولة الجديدة:
هل تبني للناس جميعًا؟ أم تعيد إنتاج التفاوت؟
هل توزّع المكان كما تُوزّع الكرامة؟ أم كما تُوزّع الولاءات؟
هل تُسكن الناس كمواطنين شركاء؟ أم كأرقام هامشية في ضواحي المدن وخلف جدران النسيان؟
لقد كان السكن في سوريا، تاريخيًا، نتاج منظومة غير عادلة، قامت على:
– غياب التخطيط،
– تغوّل المال السياسي،
– عجز الدولة عن إنتاج حلول للفئات الفقيرة،
– واحتكار الامتيازات من قبل الفئات المرتبطة بالسلطة.
ثم جاءت الحرب لتُحوّل هذا الواقع إلى كارثة:
– ملايين فقدوا منازلهم،
– توسعت العشوائيات،
– استُخدم السكن كأداة عقاب سياسي وطائفي،
– وفُرضت قوانين هدفها الأساسي تحصين المكاسب العقارية للنظام لا إعادة الحقوق للناس.
اليوم، في سوريا الجديدة، لا يمكن الحديث عن عدالة انتقالية أو إعمار أو اقتصاد منتج دون سياسة إسكانية تعيد توزيع الحيّز بكرامة وسيادة.
لأن من لا يملك مكانًا آمنًا، لن يملك مشاركة سياسية، ولا قدرة على الإنتاج، ولا شعورًا بالانتماء.
أولًا: تشريح المأزق الإسكاني في التجربة السورية
- عجز الدولة وفشل السياسات العامة
منذ سبعينيات القرن الماضي، لم تضع الدولة السورية خطة إسكانية حقيقية مستندة إلى الواقع السكاني والاحتياجات.
بل اعتمدت على نموذج متضخم من البيروقراطية، والفساد، والشركات العامة غير المنتجة، ما أدى إلى:
– انهيار المدن القديمة،
– توسع العشوائيات،
– وتضخم أسعار العقارات دون ارتباط بالقيمة الحقيقية أو بالدخل.
- تفشي العشوائيات كمؤشر اجتماعي
العشوائيات ليست مجرد أبنية مخالفة، بل نظام حياة فرضه غياب العدالة:
– ملايين السكان يعيشون دون عقود ملكية،
– دون خدمات،
– دون بنية قانونية،
– في أحياء محرومة من الاعتراف، ومن التمثيل السياسي، ومن الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
- التسييس العقاري أثناء الحرب
تم استخدام قوانين مثل القانون 10، ومرسوم 66، وغيرها، لانتزاع الملكيات من السكان، خصوصًا في مناطق المعارضة أو المهمشين، بحجة التنظيم أو التطوير.
وكان الهدف الفعلي هو الهندسة الديموغرافية، وتأمين الربح السياسي أو العقاري للنظام.
ثانيًا: أسس السياسة الإسكانية السيادية في مشروع النهضة
- السكن حق لا امتياز
تلتزم الدولة الجديدة بمبدأ أن لكل مواطن الحق في سكن آمن، لائق، مستقر، دون تمييز على أساس سياسي أو طائفي أو مناطقي أو اقتصادي.
ويُعتبر هذا الحق جزءًا من العقد الاجتماعي الجديد، لا من الخدمات المتغيرة أو الوعود الانتخابية.
- العدالة التوزيعية في الحيّز
تعني أن يُعاد توزيع السكن بما يُنهي التفاوت العميق بين مراكز المدن والأطراف،
بين من يسكن في مجمعات مغلقة، ومن يعيش في مخيم لا يعترف به أحد.
فلا دولة بدون عدالة في المكان.
- التشاركية في التخطيط
لا تُبنى المدن من فوق، بل من داخل حاجات المجتمعات المحلية.
ولذلك، تُبنى السياسة الإسكانية عبر مشاركة البلديات، والمجتمع المدني، والخبراء، والسكان أنفسهم.
- الربط بين السكن والتنمية
السكن ليس عبئًا على الاقتصاد، بل رافعة له.
تُستخدم مشاريع الإسكان لتحفيز الإنتاج، وتوليد فرص العمل، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، لا لتحقيق أرباح مضاربة أو إثراء المتنفذين.
ثالثًا: السياسات التنفيذية للإسكان السيادي
- إصدار “الميثاق الوطني للسكن العادل“
يُقرّ بأن السكن حق أساسي غير قابل للمساومة أو التمييز
يُحوّل هذا المبدأ إلى التزام دستوري
يُربط بالسجل المدني، وخطط الإعمار، والموازنات العامة
- إلغاء القوانين التي شرّعت نزع الملكية
مراجعة وإلغاء القوانين الاستثنائية (كالقانون 10 ومرسوم 66)
إعادة الاعتبار لكل من صودرت أملاكه بذرائع سياسية أو تنظيمية
إنشاء لجان قضائية مستقلة للنظر في قضايا الملكية العقارية وفض النزاعات
- إطلاق مشروع “العدالة في السكن“
خرائط وطنية لتوزع الحاجات السكانية الفعلية
بناء وحدات سكنية مخصصة للفئات الأكثر تضررًا، والأشد فقرًا، ولضحايا النزاع
إشراك البلديات في تصميم وتوزيع هذه المشاريع
توفير تمويل مشترك من الدولة، المغتربين، وصندوق الإعمار الوطني
- تسوية أوضاع العشوائيات إداريًا وقانونيًا وخدماتيًا
الاعتراف القانوني بالعشوائيات القائمة بعد تقييم سلامتها الفنية
تنظيمها إداريًا وربطها بالبنية التحتية
تمكين سكانها من التملك أو التأجير العادل
فتح تمثيل سياسي وخدمي لهم في المجالس المحلية
- توجيه التخطيط العمراني نحو التنمية لا الرفاه الخاص
منع تحويل العقارات إلى وسيلة مضاربة
فرض ضرائب تصاعدية على الملكيات الشاغرة والمضاربية
تشجيع السكن التعاوني، والمشاريع السكنية المرتبطة بمواقع العمل
إدراج السكن ضمن رؤية التنمية المتوازنة لكل المحافظات
خاتمة الفصل
في سوريا الجديدة، لا تُقاس الدولة بعدد القصور، بل بعدد البيوت التي يسكنها الناس بكرامة دون إذن من أحد.
ولا يُقاس العمران بالخرسانة، بل بعدد الأطفال الذين ينامون دون خوف، والنساء اللواتي لا يُطردن من بيوتهن، واللاجئين الذين يعودون إلى مساكنهم دون إذلال.
السياسة الإسكانية، في مشروع النهضة، ليست واجبًا إنسانيًا فقط، بل تجسيد عملي للسيادة والعدالة والكرامة.
هي ترجمة يومية لفكرة أننا نُعيد بناء سوريا لكل أبنائها، لا لمراكز النفوذ، لا للموالين، ولا للنافذين، بل لمن عاشوا على الهامش، وآن لهم أن يسكنوا في قلب الوطن.