web analytics
القسم الرابع – الباب الثالث

الفصل العاشر القدوة الوطنية

بين اغتيال المعنى واستعادة الرمزية الجامعة

 مقدمة:

حين تنكسر الصورة، يتشظى الوعي.
وحين تفقد المجتمعات رموزها الأخلاقية، تنحدر إلى فراغ معنوي تُملؤه الأصنام أو الفوضى.

لقد عانت سوريا – في ظل الاستبداد والحرب – من إبادة ممنهجة للرمزية الوطنية:

فالنظام لم يكتفِ بتحطيم المجتمع، بل حرص على إفراغ الساحة من أي قدوة حقيقية، إلا من صنعه، أو من خضع له، أو من نافق سلطته.

وفي المقابل، عجزت قوى الثورة والمعارضة عن إنتاج رموز جامعة تمثل الوجدان العام، بعد أن تصدّرتها شخصيات مأزومة أو مأجورة أو منقسمة على ذاتها.

فكانت النتيجة:

  • شعب بلا قدوة.
  • وعي بلا مرجعية.
  • وثقافة تستهزئ بالرمز، وتحتقر المثال.

 أولًا: الاستبداد وإبادة الرموز الوطنية

  1. تفريغ الحياة العامة من الشخصيات المستقلة:
    منع بروز أي صوت وطني أو أخلاقي أو نزيه خارج المنظومة السلطوية.
    اعتقال، اغتيال، أو تدجين كل من امتلك كاريزما اجتماعية حقيقية.
  2. احتكار الرمزية لصالح النظام:
    تصوير الحاكم كـ”رمز الأمة الأوحد”، وربط كل إنجاز بشخصه.
    شيطنة كل من يختلف معه بوصفه خائنًا أو عميلًا.
  3. القدوة المشوّهة في الإعلام الرسمي:
    الترويج لشخصيات انتهازية، فاسدة، بلا عمق أو استحقاق.
    صناعة “القدوة” على أساس الولاء لا القيم.

 ثانيًا: الثورة وانكسار الصورة المضادة

  1. صعود رموز ميدانية بلا تأهيل فكري أو أخلاقي:
    الارتجال، الفصائلية، التسلط، كلها ساهمت في انهيار صورة القائد الثوري النزيه.
    غياب الإعلام المهني عن ترسيخ نماذج وازنة.
  2. الانقسام في تمثيل المعارضة:
    تعدد الواجهات السياسية، وتضارب الخطابات، وغياب الاتساق، أدى إلى تآكل صورة “الرمز البديل”.
  3. تشويه الرموز الثورية بالقصف أو التخوين أو التواطؤ:
    تفجّرت ماكينة التخوين والاتهام في كل اتجاه، فاحترق الرمز قبل أن يتجذر في الوجدان.

  ثالثًا: أثر غياب القدوة على المجتمع والنهضة

  • تفكك الوعي الجمعي بسبب غياب المرجعية الأخلاقية.
  • انهيار الثقة في المؤسسات والشخصيات العامة.
  • تنامي روح التهكم والسخرية واللاجدوى في أوساط الشباب.
  • صعود “القدوات الافتراضية” المشوّهة على وسائل التواصل: نجوم الحرب، المال السريع، أو الخطاب الشعبوي.

من لا يملك رمزًا، لا يملك بوصلة. ومن لا يثق بشخص، لن يثق بمشروع.

 رابعًا: نحو استعادة الرمزية الجامعة في مشروع النهضة

  1. إعادة تعريف “الرمز” الوطني:
    ليس هو الزعيم، ولا الداعية، ولا القائد العسكري،
    بل هو الإنسان الأخلاقي الذي يُجسّد القيم في سلوكه لا في خطابه.
  2. معايير القدوة الوطنية الجديدة:
    النزاهة، التضحية، الكفاءة، التواضع، العمق الفكري، ونظافة السجل العام.
    قابلية تمثيل وجدان الناس لا فوقيتهم أو إخضاعهم.
  3. دور الإعلام الوطني في صناعة القدوة لا تسويقها:
    تسليط الضوء على الشخصيات المجتمعية التي تملك تأثيرًا حقيقيًا، لا زائفًا.
    إنتاج روايات وطنية مستندة إلى تجارب ملهمة، لا أساطير استعراضية.
  4. ربط القدوة بالمشروع لا بالفردانية:
    لا نريد قدوة منفصلة عن النهضة، بل رمزًا يحمل مشروعًا، ومشروعًا يُعيد إنتاج الرمزية.

 خامسًا: القدوة في البنية السياسية الجديدة

  • الدستور القادم يجب أن يُعيد الاعتبار لمبدأ القدوة عبر تعزيز القيم العامة:
    النزاهة كشرط للوظيفة العامة،
    مساءلة القادة،
    تمكين المجالس التمثيلية من ضبط السلوك السياسي والأخلاقي للحكم.
  • القضاء المستقل يُصبح حارسًا ضد تشويه الرموز أو استغلالها.

 خاتمة الفصل:

الرمز ليس رفاهية رمزية، بل حاجة وجودية لكل مشروع نهضوي.
فحين نُعيد للقدوة معناها، نستعيد للناس إيمانهم بأن التغيير ممكن، وأن الفضيلة ليست مهزلة، وأن المعنى لم يمت.

ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يسعى فقط إلى بناء مؤسسات، بل إلى إنتاج بشرٍ يستحقون الاحترام والثقة والاتباع، لا الطاعة العمياء.

فالأمة لا تحتاج إلى زعيم معصوم، بل إلى قدوة حية تمشي بينهم، وتُضيء الطريق بالفعل قبل القول.