web analytics
القسم السابع – الباب الثاني

الفصل العاشر إعادة هندسة الوظيفة العامة

الكفاءة مقابل التوريث

مقدمة: من الوظيفة كغنيمة إلى الوظيفة كتكليف

في التجربة السورية، تحوّلت الوظيفة العامة من كونها موقع خدمة للدولة والمجتمع،
إلى موقع امتياز وسلطة ومحسوبية،
يُوزَّع حسب القرب من السلطة،
لا حسب الجدارة أو الخبرة أو المصلحة العامة.

فباتت الإدارة السورية مثقلة بجيوش من الموظفين غير المؤهلين،
وبأطر إدارية هرِمة،
ومفاهيم وظيفية مشوّهة،
أسّست لحالة من العطالة البنيوية والفساد المقونن.

وفي مشروع النهضة،
لا نُعيد تدوير الإدارة القديمة،
بل نُعيد هندسة الوظيفة العامة من جذورها،
لننتقل من “التوظيف السياسي” إلى “المسؤولية المهنية”،
ومن “الموقع الوظيفي” إلى “الفاعلية الإنتاجية”.

أولاً:  الإشكاليات الأساسية في الوظيفة العامة السورية

لفهم ضرورة إعادة الهيكلة، نُشخّص أبرز أزمات الوظيفة العامة التي نريد تجاوزها:

غياب التوصيف الوظيفي الحقيقي: الموظف لا يعرف بالضبط ما المطلوب منه.

تغوّل الاعتبارات السياسية والطائفية والأمنية في التعيين.

انعدام المنافسة النزيهة على الوظائف العليا والوسطى.

ضعف الدافع المهني وتراجع الشعور بالانتماء للمؤسسة العامة.

تكلّس الإدارات الحكومية نتيجة التوريث البيروقراطي وعدم تداول المواقع.

الرواتب المتدنية مقابل الامتيازات اللامشروعة.

نُظم تدريب مهترئة أو معدومة.

ثانياً: مبادئ هندسة الوظيفة العامة في الدولة النهضوية

نقترح إعادة بناء الوظيفة العامة وفق المبادئ التالية:

الوظيفة تكليف لا امتياز: منصب لخدمة المجتمع لا وسيلة للتحكّم أو التربّح.

الكفاءة أول معيار: لا يُعيّن ولا يُرقّى أحد إلّا بناءً على مؤهلاته وخبرته.

الشفافية المطلقة في التعيين والترقية: لا قرارات تحت الطاولة، ولا استثناءات مريبة.

العدالة في التوزيع المناطقي والقطاعي: إنهاء التمركز الجغرافي للمواقع القيادية.

استقلالية الوظيفة العامة عن الأحزاب والتيارات: حيادية تامة للمؤسسات تجاه الانتماءات السياسية والدينية.

المساءلة المستمرة: كل موظف يُقيَّم ويُحاسب على نتائج ملموسة.

ثالثاً: أدوات إعادة الهيكلة المقترحة

من أجل تحويل المبادئ أعلاه إلى واقع عملي، نطرح مجموعة أدوات تطبيقية تشمل:

إحداث هيئة عليا لإصلاح الوظيفة العامة: مستقلة، ترتبط بالبرلمان، تتولى رسم السياسات الوطنية للموارد البشرية في القطاع العام.

بنك الكفاءات الوطنية: يضم المؤهلين من داخل سوريا وخارجها، ويتم الربط بين الوظائف الشاغرة والكفاءات المسجلة فيه.

إلغاء التعيين السياسي للوظائف غير السيادية: بحيث يخضع كل منصب إداري للمنافسة المعلنة، والاختبارات، والمقابلات.

نظام تقييم أداء فردي ومؤسساتي دوري: بمعايير واضحة تُعلن للعموم.

رفع الرواتب ضمن نظام حوافز مرتبط بالإنتاجية: لتحصين الموظف ضد الفساد، واستعادة مكانة الوظيفة العامة.

إطلاق برنامج وطني لإعادة تأهيل الكوادر الحكومية: يشمل مهارات الإدارة الحديثة، الحوكمة، الرقمنة، والقيادة.

رابعاً: مسارات التدرج الواقعي لإصلاح الوظيفة العامة

ندرك أن إصلاح الوظيفة العامة لن يحدث بقرار فوقي مفاجئ، بل يحتاج إلى مسارات تدريجية واقعية، نلخّصها كما يلي:

المرحلة الأولى (عام إلى عامين): حصر شامل للوظائف والملاك العددي الفعلي – إيقاف التوظيف العشوائي – إطلاق الهيئة العليا – تفعيل بنك الكفاءات.

المرحلة الثانية (ثلاث إلى خمس سنوات): اعتماد نظام تقييم الأداء – تطبيق معايير الجدارة على المواقع العليا – تعديل نظام الرواتب.

المرحلة الثالثة (ما بعد العام الخامس): ترسيخ التنافسية، ودمج التوظيف في خطط التنمية، وتحقيق استقلالية مؤسسية كاملة للوظيفة العامة.

خامساً: الوظيفة العامة كأداة سيادة لا أداة استتباع

حين تكون الوظيفة بابًا للسلطة، تُفسد الدولة،
وحين تكون الوظيفة بابًا للخدمة، تنهض الدولة.

وفي الدولة السيادية التي نسعى لبنائها،
لا يوجد “ابن فلان” ولا “مدعوم أمنيا”،
بل يوجد “مؤهل ذو كفاءة وضمير”.

ومَن يخدم الوطن في موقعه،
يجب أن يُكرَّم بأدائه، لا بنسبه أو ولائه،
فالدولة العادلة لا تَستثني،
ولا تُفضّل،
ولا تُكرِّس التوريث الوظيفي أو الطبقي.

ختام الفصل

لا يمكن الحديث عن إصلاح الدولة دون إصلاح الوظيفة العامة،
ولا يمكن استعادة ثقة الناس بمؤسساتهم،
إلّا حين يشعرون أن الوظائف ليست غنائم،
وأن الخدمة العامة ليست دربًا للمصلحة الشخصية.

إن إعادة هندسة الوظيفة العامة هي البوابة الكبرى لبناء الدولة الفعالة،
وهي المسار الذي سيوصلنا من العطالة إلى السيادة،
ومن العشوائية إلى الحوكمة،
ومن المحسوبية إلى دولة القانون والكفاءة.