القسم الأول
الفصل الثالث عشر الدين في سوريا
من التجذّر المجتمعي إلى الترويض السلطوي، وصعود الراديكالية بين القمع والاستثمار
مدخل فلسفي–سوسيولوجي:
حين تُغلق الدولة منافذ السياسة،
وتُخنق مؤسسات المجتمع،
وتُفرغ الهويات من معناها
وتُحوَّل الدولة إلى سلطة أمنية شاملة،
يصبح الدين الملاذ الأخير للفرد الباحث عن المعنى،
والملجأ الأخلاقي لجماعة تواجه القهر،
وفي ذات الوقت، يتحول إلى الحقل الأخطر للسلطة التي تسعى لإخضاع الوعي من داخله.
وهكذا، يصبح الدين ميدانًا للصراع، لا فقط موضوعًا للإيمان،
وصوته يُستدعى للتبرير… كما يُخنق عند التهديد،
وتُستخرج منه الطاعة كما يُستخرج منه العنف، وفق السياق الذي تفرضه السلطة.”
وتُفرَغ منه الروح التي تربطه بالمجتمع والعدالة والكرامة، فيتحوّل من نسيجٍ للهوية، إلى طُعْمٍ للهيمنة أو الرعب.
في سوريا، لا يمكن فهم الدين إلا كمساحة متداخلة بين الإيمان والهوية، السلطة والشرعية، المقاومة والترويض.
ولا يمكن تشريح الواقع السوري دون الغوص في:
- كيف استثمرت الدولة السلطوية المؤسسة الدينية،
- كيف تواطأت شخصيات دينية مع أجهزة القمع،
- كيف تم إقصاء الاعتدال وتسميم الفضاء الديني،
- وكيف ظهر التطرف، لا فقط كرد فعل، بل أحيانًا كمُنتَج مُدار،
- وكيف صعدت سلطة اليوم بمظهر مدني، وبنية دينية راديكالية نافية للديمقراطية.
أولًا: الدين في الوجدان السوري – هويةٌ لا سلطة، ومساحة مجتمع لا دولة
المجتمع السوري، بتعدديته الدينية والمذهبية،
لم يكن يومًا مجتمعًا طائفيًا مغلقًا،
بل عرف تاريخيًا دينًا متجذرًا في العادات والتقاليد، لا في التسلّط على الدولة.
- الإسلام، بمذاهبه المتنوعة، شكّل نسيج الحياة اليومية.
- المسيحية، بحضورها التاريخي العميق، ساهمت في الثقافة والاقتصاد والتعليم.
- الطوائف الصغرى (إسماعيلية، درزية، علوية، يزيدية) عاشت في فضاء اجتماعي قائم على التعايش المشروط، لا الهيمنة.
لكن هذا التعدد لم يُصنَّف، ولم يُحمَ،
بل ظل هشًّا أمام أي مشروع سلطوي يريد توظيفه،
فلم تبنِ الدولة الوطنية عقيدة حياد ديني،
ولا عقدًا ضامنًا للحرية والكرامة المتساوية.
ولا حماية تشريعية تُجرّم التمييز الديني وتكفل التعدد
ثانيًا: البعث وتأسيس الهيمنة على المؤسسة الدينية – خطاب علماني ظاهري، وتحكّم ديني عميق
“جاء حزب البعث بشعار علماني جذري، لكنه لم يسعَ إلى تحييد الدين،
بل إلى إخضاعه كليًا ضمن منظومة الضبط السلطوي.”:
- وزارة الأوقاف أصبحت فرعًا من فروع الدولة الأمنية.
- تم تعيين المفتي العام وأعضاء المجلس العلمي الشرعي بقرارات أمنية، لا بآليات دينية.
- صودرت الأوقاف والتمويل الذاتي للمؤسسات.
- فُرض على الشيوخ “دور تثقيفي تعبوي” يصب في مصلحة “القائد والحزب والوطن”.
وبذلك، لم يُفصل الدين عن الدولة،
بل تم تطويع الدين كأداة أيديولوجية،
يُستخدم عند الحاجة،
ويُسكَت عند الضرورة،
ويُعاد تشكيله كلما تطلّب الخطاب الرسمي ذلك.
فكانت الدولة تنتج خطابها الديني كما تُنتج اناشيدها: بحروف السلطة لا بنبض الإيمان.
ثالثًا: الإسلام الرسمي – إنتاج الاعتدال المطيع وإقصاء الوعي النقدي
تمت صناعة “إسلام رسمي سوري”،
يقوم على ثلاث ركائز:
- الاعتدال المفرغ من المعنى: لا اعتراض، لا سؤال، لا اجتهاد.
- الطاعة السياسية: دعم “ثوابت الوطن”، وعدم الخروج عن قرارات “القيادة”.
- التمجيد الرمزي للسلطة: تصوير الحاكم كـ”ولي أمر”، والطاعة له فريضة دينية.
وبهذا تم تجميد العقل الديني،
وتهميش مدارس التفكير الإصلاحي،
وضرب أصوات الاجتهاد التي تربط الدين بالتحرر لا بالخضوع.
وتم زرع فقه الطاعة بدل فقه الكرامة،
وفقَه الصبر بدل فقه العدل،
وفقَه الاستسلام بدل فقه المسؤولية.
وتمّ إخماد السؤال، لا بالجواب، بل بالخوف من السؤال نفسه.
رابعًا: الإخوان المسلمون – الصراع الدموي وتحوّل الدين إلى مشروع صدام سياسي
لا يمكن الحديث عن الدين والسياسة في سوريا دون التوقف عند تجربة الإخوان المسلمين:
- تنظيم ديني–سياسي واسع الانتشار منذ الخمسينات،
- مثّل لدى شريحة كبيرة من السنة المشروع الإسلامي الإصلاحي المتدرج،
- لكنه دخل في صدام دموي مع النظام في السبعينات والثمانينات،
- انتهى بمجزرة حماة 1982، وتجريم الجماعة قانونيًا وسياسيًا حتى اليوم.
هذا الصدام لم يُنهِ الجماعة،
بل حطّم البنية المدنية الإسلامية المعتدلة،
وأنتج ثلاث نتائج خطيرة:
- شيطنة كل ما هو “إسلامي” خارج الدولة.
- ترك فراغ رهيب في الوسط الديني المعتدل.
- فتح المجال لاحقًا أمام صعود أشكال أكثر تشددًا وأقل تنظيمًا. ليتحوّل الدين السياسي من مشروع إصلاحي منظَّم إلى تمظهرات متطرفة منفلتة من العقل المؤسسي والوطني معًا.
وبذلك، تم تفريغ الفضاء الإسلامي من التنظيم والاعتدال،
واستُبدل بجماعات أيديولوجية حادة أو ولائية.
خامسًا: بروز الراديكالية داخل السلطة – حين يصبح القمع مغلفًا بمظهر مدني وخطاب ديني باطني
بعد سقوط النظام المركزي، وصعود السلطة الجديدة في دمشق،
برزت سلطة ذات مظهر مدني–سياسي،
لكن بنيتها العميقة دينية–راديكالية.
- تستند إلى شرعية “الجهاد”،
- تُعيد إنتاج الفقه السلطاني: “ولي الأمر الذي لا يُنازَع”،
- تعتمد على خطاب تعبوي ديني يعيد تصوير الطاعة كواجب شرعي،
- وتستخدم المؤسسة الدينية كأداة دعم، لا كجهة مستقلة.
وهكذا، تَجدَّد التوظيف السلطوي للدين، لكن بصيغة مضادة للثورة من داخلها، لا من خارجه.:
هذه المرة من قوى نشأت باسم الثورة،
لكنها تبني سلطتها على منطق “الحق الإلهي”، لا الشرعية التمثيلية.
وبذلك، يُعاد تدوير نفس الإشكالية:
سلطة توظّف الدين…
ومجتمعٌ محاصر بين الطاعة والخوف،
وساحة فارغة من الاعتدال.
سادسًا: الجماعات الجهادية والراديكالية – من التطرّف المستورد إلى الاستبداد المعولم
مع الانفجار السوري بعد 2011،
دخلت جماعات متعددة من الخارج،
بعقائد متشددة، تنظيمات فوق وطنية، وتمويلات مشبوهة:
- داعش، النصرة، القاعدة، جماعات سلفية جهادية…
- رفعت شعارات “تحكيم الشريعة”،
- لكن أسّست إمارات تقوم على العنف، والتكفير، وتفكيك النسيج السوري.
هذه الجماعات لم تُولد فقط من رحم القهر،
بل من:
- فراغ الساحة الفكرية والدينية،
- تمويلات إقليمية تستثمر في الفوضى،
- وحاجة بعض الأطراف لتشويه الثورة وإفراغها من بعدها التحرري.
وبذلك، تحوّل الدين من مجال روحي،
إلى مشروع جيوسياسي تتصارع على احتكاره القوى الإقليمية والجماعات فوق الوطنية، بينما يُقصى عنه المجتمع نفسه.
سابعًا: من أجل نهضة لا تقصي الدين ولا تسجنه – نحو استعادة المجال الديني من السلطة والراديكالية
الدين، في مشروع النهضة، ليس عدوًا،
ولا مرجعية سياسية،
بل مجال اجتماعي وثقافي وأخلاقي،
يجب تحريره من السلطة، والراديكالية، والفراغ معًا.
وهذا يتطلب:
- فصلًا واضحًا بين الدولة والمؤسسة الدينية،
- تحرير الفضاء الديني من التسييس،
- حماية التعدد الديني والمذهبي كمكوّن وطني،
- دعم الفكر الديني العقلاني الإصلاحي، وتيسير بيئة معرفية حرة تسمح بتجديد الخطاب الديني دون رقابة أمنية أو احتكار مذهبي.
- وإعادة بناء مؤسسة دينية مستقلة، شفافة، مدنية في إدارتها، علمية في مناهجها.
خاتمة الفصل:
في سوريا، لم يكن الدين أزمة،
بل تم تحويله إلى أداة للهيمنة،
ثم إلى قناع للرعب،
ثم إلى ورقة للمساومة.
ومع انهيار السياسة والمجتمع،
صار الدين الملجأ والسكين،
الدواء والسم،
الشرعية والرعب.
ولن تُبنى السيادة الوطنية دون فضاء ديني محرَّر،
يحيا في المجتمع لا فوقه، ويتكامل مع الدولة لا يُختَزل فيها.
لهذا، فإن بناء مشروع نهضوي حقيقي لا يكون بإقصاء الدين،
ولا بتأليهه،
بل بإعادته إلى فضائه الإنساني:
رافعة للأخلاق، لا للسلطة،
وصوتًا للضمير، لا ذراعًا للقمع.