القسم الخامس
الفصل الثالث عشر الهويات الجزئية والهوية الوطنية
من التفكك إلى الاندماج
مقدمة الفصل:
لا تنشأ المجتمعات الحديثة إلا عبر اندماج تدريجي بين الأفراد والمكونات في كيان وطني جامع.
غير أن التجربة السورية أثبتت هشاشة هذا الاندماج:
فطوال العقود الماضية، ظلّت الهويات الجزئية — الطائفية، العشائرية، الإثنية، المناطقية — أقوى من الهوية الوطنية المفترضة.
ومع اندلاع الحرب، انفجرت هذه الهويات في وجه بعضها البعض، وسقط القناع عن ضعف الانتماء للوطن كوطن.
إن مشروع النهضة السورية لا يستطيع أن يتجاهل هذه الحقيقة المرّة، ولا أن يقفز فوقها بشعارات مصطنعة.
بل عليه أن يخوض معركة بناء الهوية الوطنية من جديد:
هوية تعترف بالتعدد، ولكن تنظم العلاقة بين مكوناته في إطار عقد اجتماعي ديمقراطي، يحترم الجميع ولا يقصي أحدًا.
أولًا – الهويات الجزئية في التجربة السورية: واقع لا يمكن تجاهله
منذ بداية الكيان السوري الحديث، كانت سوريا مجتمعًا متنوعًا بشكل حاد:
طوائف دينية: سنة، علويون، مسيحيون، دروز، إسماعيليون، وغيرهم.
قوميات: عرب، أكراد، سريان، آشوريون، شركس، تركمان…
تركيبات مناطقية: مدن كبرى مقابل أرياف محيطية.
هويات عشائرية وعائلية مترسخة.
هذا التنوع لم تتم معالجته عبر مشروع وطني دمجي حقيقي.
بل:
تمّ قمعه أحيانًا بالعنف (كما في عهد الاستبداد البعثي–الأسدي).
أو تمّ تسييسه وتوظيفه لتكريس الهيمنة على حساب الوحدة الوطنية.
ومع الانهيار السياسي والعسكري، خرجت هذه الهويات إلى السطح بكل عنفها، وبرزت كتحدٍ وجودي لبقاء الدولة السورية.
ثانيًا – هل الهويات الجزئية خطر بذاتها؟
التعددية ليست مشكلة.
الهويات الجزئية ليست خطرًا في ذاتها.
المشكلة تبدأ حين:
يُختزل الفرد إلى هويته الجماعية فقط.
تصبح الهوية وسيلة صراع سياسي بدل أن تكون تعبيرًا ثقافيًا.
تُوظف الهويات لتبرير الامتيازات أو الإقصاء أو العنف.
تتحول الهويات إلى كيانات سياسية مغلقة تهدد وحدة الدولة.
في المقابل، المجتمعات الحديثة الناجحة لم تلغِ الهويات الفرعية، بل نظّمتها، واحتوتها ضمن هوية سياسية جامعة قائمة على المواطنة.
ثالثًا – التشريح البنيوي للهويات الجزئية السورية
- الهوية الطائفية:
تأسست عبر الشعور بالمظلومية أو الامتياز.
جرى استغلالها سياسيًا عبر التحريض أو الحماية.
تمّ اختزال الانتماء الوطني إلى الانتماء الطائفي.
- الهوية القومية (العربية–الكردية–السريانية وغيرها):
تعززت بفعل الإقصاء الثقافي أو محاولات الصهر القسري.
غابت سياسات الاعتراف بالتعدد اللغوي والثقافي.
استُخدمت الهويات القومية كذرائع لانفصال أو تمرد سياسي.
- الهوية العشائرية:
ظلّت رابطة أساسية للحماية والتمثيل الاجتماعي.
تفوقت في أحيان كثيرة على الهوية القانونية المدنية.
استُغلت من قبل السلطة في تحالفات مرحلية لضرب الخصوم.
- الهوية المناطقية:
الفجوات التنموية بين المدن والريف خلقت هويات مناطقية متمايزة (دمشق، حلب، دير الزور، إدلب…).
تغذت النزعات المناطقية على الإهمال المتعمد من المركز.
رابعًا – أثر تفكك الهوية الوطنية على المشروع الوطني
حين تتحول الهويات الجزئية إلى كيانات سياسية متنازعة:
تتلاشى فكرة الوطن كوحدة جامعة.
يصبح الانتماء للوطن مرهونًا بمصالح الهوية الفرعية.
تضعف مؤسسات الدولة لصالح سلطات محلية أو طائفية أو عشائرية.
يتحول الصراع السياسي إلى صراع وجودي بين الجماعات بدل أن يكون تنافسًا ديمقراطيًا مدنيًا.
لهذا، لا يمكن للنهضة السورية أن تنجح دون إعادة تأسيس مفهوم الهوية الوطنية بطريقة عميقة وشاملة.
خامسًا – المبادئ التأسيسية لبناء الهوية الوطنية الجديدة
لكي تكون هناك هوية وطنية جامعة بحق، لا بد من الالتزام بالمبادئ التالية:
المواطنة كأساس وحيد للانتماء السياسي:
الفرد مواطن لأنه إنسان يعيش ضمن حدود الدولة، لا لأنه من طائفة أو قومية معينة.
احترام التعددية الثقافية واللغوية والدينية:
الاعتراف بكل المكونات لا يلغي الانتماء الوطني، بل يعززه عبر التنوع.
حياد الدولة تجاه الهويات الفرعية:
لا تمثل الدولة طائفة ولا قومية، بل تمثل العقد الوطني المشترك.
منع التسييس الطائفي والعرقي:
حظر الأحزاب والجماعات السياسية التي تُبنى على أساس الهوية الدينية أو العرقية.
التربية الوطنية المدنية:
تعليم الأجيال القادمة أن الهويات الثقافية محترمة، لكن الانتماء السياسي الوحيد هو للوطن الجامع.
العدالة والمساواة:
إزالة كل أشكال التمييز والإقصاء على أساس الهوية، وبناء ثقة متبادلة قائمة على الحقوق والواجبات المتساوية.
سادسًا – الاستراتيجيات العملية لبناء الاندماج الوطني
- إصلاح الدستور والقوانين:
ضمان الاعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي رسميًا.
تجريم التمييز الطائفي والعرقي.
- إعادة توزيع التنمية:
معالجة الفجوات التنموية بين المناطق، لمنع تحويل التهميش إلى هوية مناطقية مضادة.
- إصلاح الإعلام والتعليم:
بناء خطاب وطني مدني، يتجنب التحيز لأي مكون.
تعليم التاريخ بطريقة نقدية، تحترم جميع الروايات دون إنكار أو تزوير.
- دعم الفضاء المدني العابر للهويات:
تشجيع قيام جمعيات، نقابات، حركات شبابية تضم كل السوريين بغض النظر عن هوياتهم الفرعية.
- إطلاق برامج ثقافية وفنية وطنية:
دعم الإنتاج الفني والثقافي الذي يعبر عن الهوية السورية الجامعة بمختلف ألوانها.
سابعًا – التحديات الكبرى أمام بناء هوية وطنية سورية جديدة
مقاومة القوى التي استفادت من تفكك الهويات لتحقيق مصالحها.
تراكم المظالم الجماعية وصعوبة تجاوزها دون عدالة انتقالية.
استمرار التدخلات الخارجية التي تغذي الانقسامات.
هشاشة مؤسسات الدولة وغياب مثال حي لحياد الدولة واستقلالها.
خاتمة الفصل:
إن معركة الهوية الوطنية في سوريا، ليست معركة فوقية تُخاض في نصوص الدساتير فقط،
بل هي معركة وعي، وثقافة، وسلوك اجتماعي–سياسي طويل الأمد.
إن الاعتراف بالهويات الجزئية لا يعني الخضوع لها ككيانات سياسية،
والاحترام للتنوع لا يعني السماح له بتمزيق النسيج الوطني.
إن بناء وطن حديث، مستقر، ديمقراطي،
يمر حتماً عبر بناء هوية وطنية جديدة،
هوية تُكرّم تنوع السوريين، ولكن توحدهم فوق اختلافاتهم،
هوية تجعل من السوريين مواطنين أحرارًا لا أتباعًا لجماعات مغلقة.
فقط بهذه الهوية، يمكن لسوريا أن تخرج من قرن النزاعات إلى زمن الدولة.