القسم السادس – الباب الأول
الفصل الثالث هندسة منظومة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد
مدخل تأسيسي
لا يمكن الحديث عن بناء دولة سورية جديدة عادلة وقوية دون أن تكون مسألة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد حجر الزاوية في كل هندسة مؤسساتية.
فالفساد لم يكن مجرد ظاهرة عرضية في النظام القديم، بل شكّل نمط حكمٍ، وطريقة إدارة، وأداة لبناء الولاءات وتثبيت السلطة.
معركة النهضة في سوريا ليست فقط معركة بناء مؤسسات، بل معركة بناء أخلاقي–سياسي عميق، يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين المال العام والمسؤولية العامة، بين القانون والممارسة اليومية.
أولاً: تشخيص طبيعة الفساد في سوريا
لفهم كيفية هندسة منظومة فعالة لمكافحة الفساد، يجب أولاً فهم طبيعته البنيوية التي تجلت عبر:
فساد بنيوي مؤسسي
حيث أصبحت المؤسسات الإدارية أداة لخدمة المصالح الخاصة للنافذين بدلًا من أن تكون خادمة للصالح العام.
فساد مالي اقتصادي
عبر نهب الثروات العامة، وتفكيك الإنتاج الوطني لصالح شبكات ريعية طفيلية.
فساد قضائي وعدلي
حيث أُفرغت مؤسسات العدالة من مضمونها لتتحول إلى أدوات قمع أو حماية للفاسدين.
فساد سياسي
عبر شراء الولاءات، وتزييف الانتخابات، وتكريس نظام محاصصة مصالح.
فساد اجتماعي وأخلاقي
حيث تم تسويق الفساد كحالة طبيعية أو “شطارة”، مما أدى إلى إضعاف منظومة القيم الوطنية.
ثانيًا: المبادئ المؤسسة للحوكمة الرشيدة
أي هندسة جدية لمنظومة مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة يجب أن تنطلق من مجموعة مبادئ أساسية، أبرزها:
الشفافية
كحق أساسي للمواطن في معرفة كيفية إدارة المال العام والقرارات العامة.
المساءلة
حيث يخضع كل صاحب مسؤولية للمحاسبة عن أفعاله وأدائه، وفق معايير قانونية عادلة وواضحة.
سيادة القانون
لا أحد فوق القانون، سواء كان سياسيًا أو أمنيًا أو اقتصاديًا.
المشاركة الشعبية
في الرقابة واتخاذ القرار، بما يعزز انخراط المجتمع المدني في حماية الصالح العام.
الاستقلال المؤسسي
خاصة للقضاء، وأجهزة الرقابة، والهيئات الناظمة، لضمان عدم تسييس مكافحة الفساد.
ثالثًا: البنية المؤسساتية لمنظومة مكافحة الفساد
لتنفيذ هذه المبادئ، يجب بناء منظومة مؤسساتية متكاملة، تشمل:
هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد
تتمتع بالاستقلال الكامل، والصلاحيات الواسعة للتحقيق، والملاحقة، وإحالة القضايا للقضاء.
محكمة متخصصة بجرائم الفساد
ذات صلاحيات واضحة وإجراءات قضائية مبسطة تضمن العدالة والسرعة.
مجلس شفاف للوظيفة العامة
ينظم معايير التوظيف والترقية والمحاسبة في القطاع العام.
هيئات ناظمة للقطاعات الاقتصادية الحيوية
كالكهرباء، والمياه، والاتصالات، والنفط، لضمان المنافسة الشفافة.
شبكة وطنية للمراجعة الداخلية
تفرض رقابة دورية صارمة على المؤسسات والإدارات العامة.
جهاز تدقيق خارجي مستقل
مسؤول عن تدقيق الميزانيات الحكومية، ونشر تقارير دورية للعامة.
رابعًا: الإطار التشريعي والتنظيمي
يتطلب بناء منظومة مكافحة الفساد إطارًا تشريعيًا متماسكًا يتضمن:
قانون شامل لمكافحة الفساد، يعرف الجرائم بوضوح، ويحدد العقوبات، وينشئ الآليات الخاصة بالملاحقة والتحقيق.
قانون لحماية المبلغين عن الفساد وضمان سرية هويتهم وسلامتهم.
قانون لتنظيم تضارب المصالح، ومنع الجمع بين المناصب العامة والمصالح الخاصة.
قانون لضمان الشفافية في التعاقدات العمومية والمشتريات الحكومية.
قانون ينظم الإعلان الإجباري عن الذمة المالية لكبار المسؤولين والنواب والقضاة.
ويجب أن ترتبط هذه التشريعات بآليات تنفيذية صارمة، مع ضمان استقلال القضاء وأجهزة الرقابة بشكل كامل.
خامسًا: الأدوات والآليات التنفيذية
الإفصاح المالي الإجباري
لجميع كبار موظفي الدولة سنويًا، مع نشر هذه البيانات علنًا.
إنشاء منصات إلكترونية شفافة
لعرض العقود الحكومية، والمشاريع، والمشتريات، وتسهيل الرقابة الشعبية.
آلية شكاوى فورية فعالة
تسمح للمواطنين برفع تقارير عن الفساد بسرية وسهولة، مع ضمان متابعتها.
إصلاح نظام المشتريات العمومية
عبر إرساء مبادئ المنافسة والعلانية، وضمان الشفافية الكاملة.
برامج توعية مجتمعية
لترسيخ ثقافة رفض الفساد ومحاسبة المسؤولين، بدءًا من المدارس ووصولًا إلى وسائل الإعلام.
التعاون الدولي
مع الهيئات والمنظمات الدولية المتخصصة لدعم القدرات الوطنية على مكافحة الفساد.
سادسًا: التحديات والرهانات
مقاومة شبكات المصالح العميقة
التي ستسعى لإفشال أو تعطيل أي محاولة جدية لمكافحة الفساد.
خطورة التسييس
عبر استخدام ملفات الفساد لتصفية الخصوم بدلًا من بناء منظومة عدالة حقيقية.
الإرث الاجتماعي للفساد
الذي قد يجعل مقاومته صعبة في المدى القصير، مما يفرض تدرجًا مدروسًا في تطبيق السياسات الإصلاحية.
ضرورة استدامة الجهود
لأن مكافحة الفساد ليست حملة عابرة، بل مسار طويل يتطلب التزامًا وطنيًا مستمرًا.
خاتمة الفصل
الحوكمة الرشيدة ليست مجرد مطلب إداري لتحسين الأداء الحكومي، بل هي شرط وجود لبقاء سوريا كدولة حقيقية.
والفساد ليس فقط جريمة اقتصادية أو قانونية، بل هو سرطان ينخر كل مفاصل الحياة العامة، ويدمر الإيمان الوطني بالمستقبل.
لهذا، فإن هندسة منظومة صارمة، عادلة، مستقلة وفعالة للحوكمة ومكافحة الفساد، هي جزء لا يتجزأ من معركة النهضة السورية:
معركة بناء إنسان حر، ومجتمع سليم، ودولة تستحق الاحترام.