web analytics
القسم التاسع – الباب الأول

الفصل الثالث السياسة الخارجية السورية

من التبعية إلى السيادة المتوازنة

مقدمة تأسيسية: لماذا تبدأ السيادة من الخارج أحيانًا؟

قد تبدو السياسة الخارجية، في المراحل الانتقالية، ملفًا مؤجلًا أمام التحديات الداخلية. لكن في الحقيقة، لا نهضة داخلية ممكنة دون تفكيك منظومة الارتهان الخارجي التي حكمت سوريا لعقود.

فحين تكون قرارات الحرب والسلام، والتحالف والخصومة، والاقتصاد والعلاقات، مفروضة من خارج الإرادة الوطنية، تصبح الدولة منزوعة السيادة، فاقدة لهويتها الاستراتيجية، وعاجزة عن حماية أمنها ومصالحها.

لقد مثّلت السياسة الخارجية، في النظام السوري القديم، أداةً مزدوجة:
– في الخارج، كانت وسيلة مساومة لحماية النظام لا الوطن؛
– وفي الداخل، كانت ذريعة للقمع باسم “المؤامرة الكونية” أو “الثوابت القومية”.

فلا كانت سوريا مستقلة في خياراتها، ولا كانت قادرة على تأسيس تحالفات متوازنة تحفظ أمنها وتنمّي اقتصادها.
وما إن بدأت الثورة، حتى انهار ما تبقّى من استقلال القرار، وتحوّلت البلاد إلى ساحة صراعات إقليمية ودولية، تتصارع فوق ترابها كل القوى دون استئذان، لأن الدولة لم تكن تمثّل شعبها، ولا تملك قراراتها.

من هنا، فإن مشروع النهضة لا يرى في السياسة الخارجية مجرّد “ملف سيادي”، بل يعتبرها ساحة إعادة التأسيس الأخلاقي والاستراتيجي للدولة:

– من موقع الحليف لا التابع،
– من الشراكة لا الاحتماء،
– من التوازن لا الانحياز الأعمى،
– ومن تمثيل الإنسان السوري لا الدفاع عن الحاكم.

أولًا: تشريح الانهيار – كيف فقدت سوريا قرارها الخارجي؟

  1. نظام استبدادي خارج الإجماع الوطني

منذ انقلاب البعث، تحوّلت السياسة الخارجية السورية إلى وظيفة أمنية، لا استراتيجية وطنية.

اتُّخذت القرارات الكبرى من خارج المؤسسات ومن دون مساءلة أو توافق شعبي، بل وُظّفت لتقوية النظام أو تأمين بقائه، حتى لو تعارض ذلك مع مصالح سوريا كدولة وشعب.

فالدخول في الصراع اللبناني، أو التحالفات الإقليمية المتبدلة، أو التدخلات في العراق، أو حتى العلاقة مع إيران وروسيا لاحقًا، كلّها لم تخضع يومًا لمبدأ “ما مصلحة سوريا في هذا؟”، بل لمعادلة “ما الذي يضمن استمرار النظام؟”.

  1. التبعية كمنهج حماية للسلطة

مع مرور الوقت، تحوّل النظام إلى كيان فاقد للاستقلال، يستبدل السيادة بالحماية.
– إيران ضمنت بقاءه مقابل التغلغل الطائفي والسياسي.
– روسيا فرضت وجودها مقابل قواعد عسكرية دائمة.
– القوى الغربية استُرضيت أحيانًا أو عُوديت بحسب لحظة الانفعال.

وهكذا، تفكّك الخطاب السيادي رسميًا، وانتهت سياسة “التوازن الاستراتيجي” التي كانت تُدّعى، إلى بيع القرار السوري مقابل بقائه الشخصي على الكرسي.

  1. تهميش الخارجية وتحويلها إلى واجهة

لم تكن وزارة الخارجية سوى “سكرتارية تنفيذية” لقرارات الأمن القومي المغلقة.

فانعدم دور الدبلوماسية الحقيقية، وجرى تحويل السفارات إلى أبواق سياسية أو مكاتب أمنية، لا أدوات تمثيل للشعب السوري أو حماية لمصالحه.

ثانيًا: مرتكزات السياسة الخارجية في مشروع النهضة السورية

  1. السيادة أولًا – لا أمن ولا شراكة دون استقلال القرار

السياسة الخارجية، في الدولة الجديدة، تبدأ من الداخل:
– حين تكون الدولة شرعية، تكون قوية.
– وحين يكون قرارها داخليًا، تكون شراكاتها متوازنة.
– وحين تمثّل إرادة شعبها، تصبح مهابة ومطلوبة.

فلا تحالف نافع إن كان على حساب الكرامة، ولا استقلال كافي إن كان هشًا أمام الابتزاز الخارجي.

  1. التوازن الاستراتيجي بدل المحاور

لن تكون سوريا في مشروع النهضة “ذيلًا في محور”، ولا “كارتًا تفاوضيًا” على طاولات القوى.
بل تسعى إلى سياسة خارجية قائمة على:
– الاستقلال في التحالفات،
– رفض الالتحاق بأي مشروع توسعي،
– التعاون المشروط بالمنفعة المتبادلة،
– التوازن بين الغرب والشرق، دون انحياز أيديولوجي مسبق.

  1. الدبلوماسية السيادية بدل الدبلوماسية الانفعالية

تنطلق السياسة الخارجية من رؤية طويلة المدى، تراعي مصالح سوريا العليا، وتُدار عبر مؤسسات مهنية، لا عبر الأهواء.
وهذا يتطلب استعادة مؤسسات الخارجية، وتأهيل كوادرها، وفصلها عن الأجهزة الأمنية، وربطها بمجلس السياسات العليا المنبثق عن الإرادة الشعبية.

  1. أولوية الأمن القومي

تُعاد تعريفات الأمن القومي السوري لتشمل:
– حماية الأرض من أي انتهاك،
– وقف كل احتلال خارجي مهما كان شكله،
– رفض تحويل أي منطقة إلى ساحة نفوذ لدولة أجنبية،
– بناء توازن ردع دبلوماسي–اقتصادي يضمن احترام سوريا كدولة لا كساحة.

ثالثًا: السياسات التنفيذية المقترحة لاستعادة القرار الخارجي

  1. إعادة بناء وزارة الخارجية على أسس مهنية وسيادية

إخراجها من الهيمنة الأمنية.

تشكيل مجلس دبلوماسي أعلى يضم سفراء سابقين، أكاديميين، وممثلين عن البرلمان.

إخضاع التعيينات والسفارات لمعايير الكفاءة والتمثيل الحقيقي.

  1. إعلان “مبدأ السيادة المتوازنة” في السياسة الخارجية

وثيقة تأسيسية توضح أن الدولة السورية الجديدة ترفض التبعية لأي محور.

تقوم شراكاتها على ثلاثية: المصالح المشتركة، الاحترام المتبادل، والاستقلال الكامل في القرار.

  1. التفاوض مع القوى الدولية على انسحاب القوات الأجنبية

وضع جدول تفاوضي علني ومدروس لإنهاء كل وجود عسكري غير مشروع على الأراضي السورية.

ربط أي شراكة مستقبلية بضمان إنهاء الاحتلال السياسي أو العسكري أو الاقتصادي لأي طرف.

  1. إطلاق سياسة خارجية ناعمة داعمة للنهضة

تفعيل القوة الناعمة من خلال الكفاءات السورية في الخارج، والشتات، والطلبة.

استخدام الثقافة، والحقوق، والديبلوماسية العامة لتقديم صورة سوريا الجديدة.

تأسيس هيئة “العلاقات السيادية الدولية” للتواصل مع الشعوب لا فقط الحكومات.

  1. إعادة تعريف العلاقات العربية والدولية

تجاوز سياسة “التخوين أو التطبيع”، نحو علاقات ناضجة تحفظ الكرامة.

صياغة علاقات متكافئة مع دول الجوار تُبنى على مبدأ: لا تدخل، لا تهديد، لا تبعية.

خاتمة تأسيسية

إن السياسة الخارجية ليست ملفًا تقنيًا يُدار في الغرف المغلقة، بل مرآة لهوية الدولة، وأداة تعبير عن سيادتها، وضمانة لحماية كرامة شعبها.

وفي سوريا الجديدة، لا نطمح إلى دولة قوية بالولاء، بل مستقلة بالقرار؛
ولا نريد شركاء يدعمون السلطة، بل أصدقاء يحترمون الشعب؛
ولا نعيش في عزلة شعاراتية، بل في انفتاح سيادي–مشروط يضع مصلحة الإنسان السوري فوق كل اعتبار.