القسم السابع – الباب الأول
الفصل الثالث نموذج الحكم التشاركي
السلطة التنفيذية خارج منطق الفرد الواحد
أولًا: نحو إنهاء الاستبداد البنيوي
حين نُعيد التفكير في بنية السلطة التنفيذية، فنحن لا نكتفي بإعادة توزيع الصلاحيات أو تغيير شكل النظام السياسي، بل نُعالج جذرًا بنيويًا مزمنًا لطالما أنتج الطغيان في سوريا: مركزية القرار في يد الفرد، وتحوّل الحاكم إلى مصدر لكل شرعية، وكل قانون، وكل مصير.
لقد أثبتت التجربة السورية – كما بيّناها في القسم الأول – أن تركيز السلطة في يد “الرئيس القائد الضامن” لم يكن مجرد انحراف، بل نظامًا متكاملًا لتجريد المجتمع من قراره، وتحويل مؤسسات الدولة إلى أدوات تنفيذية بيد الحاكم الفرد.
لهذا، فإن إعادة تصميم السلطة التنفيذية تبدأ من منطق تفكيك الفردانية السياسية، لصالح بنية حكم تشاركية، تعددية، خاضعة للرقابة، ومحددة الصلاحيات.
ثانيًا: الخيار بين النماذج – رئاسي؟ برلماني؟ مختلط؟
لسنا هنا في صدد نسخ نموذج سياسي من الخارج، بل نؤسس نموذجًا سوريًا تشاركيًا ينبع من واقعنا وتشريحاتنا. ومع ذلك، لا بد من تحليل النماذج السياسية الكبرى لتحديد ما يتناسب مع حالتنا:
النظام الرئاسي الكامل (على الطريقة الأمريكية): يمنح رئيس الدولة صلاحيات تنفيذية واسعة، ويحتاج لتوازنات مؤسسية قوية، يصعب تحققها في مجتمع مأزوم ومفتت.
النظام البرلماني الصرف (على الطريقة البريطانية): تكون فيه الحكومة منبثقة كليًا عن البرلمان، ما يجعله أكثر ديمقراطية، لكنه قد يؤدي إلى عدم استقرار في حال الانقسامات العميقة.
النظام المختلط (كما في فرنسا أو تونس): يُوزع الصلاحيات بين رئيس منتخب وحكومة مسؤولة أمام البرلمان، مع توازن دستوري دقيق.
وفي الحالة السورية، فإن نموذجًا مختلطًا مع ضوابط صارمة، يبدو الأكثر ملاءمة لتحقيق التوازن بين الفعالية والرقابة.
ثالثًا: المبادئ التأسيسية لبنية السلطة التنفيذية
الرئاسة ليست مركز السلطة بل أحد روافدها – الرئيس يؤدي وظيفة تمثيلية–تنسيقية، لا يتحكم بالدولة ولا يُشرعن بقاءه باسم “الضمانة”.
الحكومة هي المركز الفعلي للقرار التنفيذي – تتكوّن من ائتلاف برلماني يمثل الإرادة الشعبية، وتخضع للمساءلة الدائمة.
فصل واضح بين رأس الدولة ورأس الحكومة – الرئيس لا يترأس الحكومة، ولا يشارك في رسم السياسات التنفيذية اليومية.
ولاية محدودة غير قابلة للتمديد – لا تمديد ولا تعديل لاحق لشروط البقاء في السلطة.
سلطات الرئيس مضبوطة دستوريًا – تشمل مهامًا رمزية (استقبال السفراء، المصادقة على القوانين…)، ويخضع هو نفسه للقانون والمحاسبة.
رابعًا: الهيكل العملي المقترح للسلطة التنفيذية
- رئيس الجمهورية:
يُنتخب عبر اقتراع شعبي مباشر لدورة واحدة غير قابلة للتجديد.
يمثل الدولة في المحافل الرسمية، ويصادق على القوانين بعد إقرارها، ويعيّن السفراء.
لا يمتلك أي صلاحيات تنفيذية مباشرة، ويخضع للمساءلة الدستورية كأي مسؤول آخر.
- رئيس الحكومة:
يُنتخب من الأغلبية البرلمانية، ويكون المسؤول التنفيذي الأول في الدولة.
يضع البرنامج الحكومي، ويتولى الإشراف على تنفيذ السياسات العامة.
يقدم بيانًا حكوميًا أمام البرلمان ويخضع لحجب الثقة عند الإخفاق.
- مجلس الوزراء:
يُشكّل من خلال التشاور بين رئيس الحكومة والقوى البرلمانية.
يتولى إدارة الوزارات وتنسيق العمل التنفيذي.
تُعقد جلساته بشكل علني، ويخضع للمساءلة أمام البرلمان والرأي العام.
خامسًا: ضمانات ضد عودة الفردانية السياسية
لكي لا يُعاد إنتاج الاستبداد السياسي ضمن أي صيغة، يجب أن تتضمّن البنية الدستورية:
منع جمع رأس الدولة ورأس الحكومة في شخص واحد.
منع الترشّح لأكثر من دورة واحدة لأي رئيس.
ربط جميع التعيينات التنفيذية بموافقة البرلمان أو جهات مستقلة.
تحصين المؤسسات الرقابية من التدخل السياسي.
ضمان إعلام حر يكشف الفساد والسلطوية.
سادسًا: أدوار مؤسساتية داعمة للسلطة التنفيذية
المجلس الوطني للتخطيط الاستراتيجي – يضع الأجندة التنموية بعيدة المدى، ويُشرف على التزامات الدولة، ويضم خبراء لا سياسيين.
هيئة مكافحة الفساد المستقلة – تمتلك صلاحية التحقيق مع أي مسؤول، بما في ذلك رئيس الدولة والحكومة.
المفوضية العليا للحوكمة والإدارة – تراقب أداء المؤسسات، وتقيم خطط العمل الحكومي على أساس الشفافية والكفاءة.
سابعًا: من الحاكم إلى المسؤول… من السلطة إلى الخدمة
إن النموذج الذي نقترحه هنا لا يعادي الرئاسة كمؤسسة، بل ينزع عنها القداسة والخطورة، ويعيدها إلى حجمها الطبيعي داخل دولة تعاقدية حديثة، يكون فيها الرئيس موظفًا عامًا لا ظلًا لله، والحكومة أداة خدمة لا سيطرة، والمسؤول فردًا من الناس لا فوقهم.
خاتمة الفصل: نهاية الزعيم وبداية العقد
لن تكون النهضة السورية ممكنة في ظل بقاء البنية القديمة التي تضع الفرد فوق العقد، والزعيم فوق الدولة، والكرسي فوق الشعب.
إنها لا تبدأ من تعديل شكلي للسلطة، بل من تفكيك المنطق الذي أنتج الاستبداد ذاته.
نحو بنية حكم جديدة…
تُدار بالإرادة لا بالأوامر،
وتخضع للمحاسبة لا للتقديس،
وتُبنى للمستقبل… لا للبقاء في السلطة.