القسم العاشر – الباب الأول
الفصل الثالث المجتمع السياسي من النخبة المنعزلة إلى التشاركية الشعبية
إعادة تأسيس الحياة السياسية كمجال عام مفتوح ومؤسساتي بعد الانغلاق
أولًا: المشكلة التاريخية – نفي المجتمع عن السياسة وتغريب السياسة عن المجتمع
منذ خمسينيات القرن الماضي، وبشكل متسارع بعد استلام البعث للسلطة، تم فصل السياسة عن المجتمع وتحويلها إلى مجال مغلق محكوم بولاءات أمنية أو فئوية أو حزبية شمولية. وقد تكرّس هذا الاتجاه مع عسكرة الدولة واحتكار “البعث القائد”، حيث أصبحت السياسة حكرًا على نخب مدجنة أو مخترقة أو متواطئة، بينما جرى تهميش المجتمع، وتفكيك أدواته الطبيعية في التنظيم والمشاركة والمساءلة.
وبالتالي، لم يعد في سوريا مجتمع سياسي حقيقي، بل حلقات سلطوية مغلقة تتصارع داخل الدولة أو على هامشها، دون أي تمثيل حقيقي لإرادة الناس أو لقواهم الاجتماعية.
وتَمثّلت النتيجة في الانفصال الكامل بين الدولة والمجتمع، وغياب الوسيط الذي ينقل المطالب من الشارع إلى القرار، ويحول التوترات إلى تفاوض، والتعدد إلى تنظيم.
ثانيًا: التحديات البنيوية في بناء مجتمع سياسي سليم
إن أي محاولة لإعادة تأسيس الحياة السياسية في سوريا تواجه سلسلة من التحديات:
الإرث الأمني–القمعي الذي جعل النشاط السياسي مرادفًا للخطر والخيانة والعمالة.
ضعف التنظيم المجتمعي الوسيط مثل النقابات، والاتحادات، والمجالس المحلية الحقيقية.
انعدام الثقة الشعبية بالأحزاب والنخب نتيجة تاريخ طويل من التواطؤ أو العجز أو الارتهان.
سيولة الهويات والانتماءات بعد الانفجار الوطني، ما أدى إلى تغييب الإطار السياسي الجامع.
غياب البنية الدستورية والقانونية التي تضمن التعدد السياسي وتحميه من التوظيف الأمني أو التفكيك المجتمعي.
ثالثاً: خطة العمل لإعادة تأسيس المجتمع السياسي السوري
- 1. إقرار مبدأ السياسة كحق جماعي لا امتياز نخبوي
دسترة الحق في التنظيم السياسي، والانتساب، والاحتجاج، والعمل الجماعي.
تحصين هذا الحق من أي قيود أمنية أو سياسية أو طائفية أو ثقافية.
منع احتكار العمل السياسي في إطار الحزب الواحد أو التيار الواحد أو العائلة السياسية.
- 2. إعادة بناء البنية التحتية للمجتمع السياسي
تأسيس منظومة حديثة ومستقلة لتنظيم الأحزاب، النقابات، المنتديات، والمجالس المهنية.
إعادة هيكلة النقابات والاتحادات على أساس الانتخابات الداخلية الشفافة لا التعيين السياسي.
دعم التكوين المحلي للمجالس المدنية المنتخبة، وتعزيز دورها في بناء الوعي والمطالبة السياسية.
- 3. تطوير البيئة القانونية والسياسية لحماية التعدد
إصدار قانون أحزاب حديث يحظر التمييز، ويضمن الشفافية، ويفرض التداول الداخلي.
حماية النشاط السياسي من التجيير الديني أو الطائفي أو الخارجي.
تنظيم التمويل السياسي، وضمان تكافؤ الفرص بين القوى والكيانات الجديدة والقديمة.
- 4. تمكين القوى الاجتماعية من دخول المجال السياسي
إنشاء برامج وطنية لتمكين الشباب، النساء، الفئات المهمّشة للمشاركة السياسية الفاعلة.
إدراج التربية السياسية المدنية في المناهج التعليمية، من الابتدائي إلى الجامعي.
دعم ظهور إعلام سياسي تحليلي مستقل، يعكس التنوع السياسي لا يختزله.
رابعاً: التصور التنفيذي المتدرج
- المرحلة الأولى (أشهر 0–12)
إصدار قانون تنظيم العمل السياسي والنقابي.
تدشين منتديات سياسية ومجتمعية مؤقتة على مستوى المحافظات.
إطلاق برامج تثقيف سياسي واسع النطاق.
- المرحلة الثانية (سنة 1–3)
تأسيس المجلس الأعلى للمجتمع المدني والوساطة السياسية.
إجراء أول انتخابات مستقلة في النقابات والاتحادات.
تمكين الحركات السياسية الجديدة من الترشح والمشاركة في الحكم المحلي.
- المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)
مأسسة آليات الرقابة السياسية المجتمعية على أداء الأحزاب والنخب.
تقييم سنوي للمشاركة السياسية ونزاهتها وتوازنها الجندري والمناطقي.
ضمان الربط الهيكلي بين الأحزاب المنتخبة ومجالس الأحياء والنقابات.
خامساً: التشاركية السياسية كمحور لإعادة بناء الوطن
لا يُبنى وطن على نخبة منعزلة، ولا تُحمى الدولة دون شبكة سياسية–مجتمعية واسعة تمارس الحكم والمحاسبة وتشارك في اتخاذ القرار.
إن المجتمع السياسي ليس ترفًا تنظيميًا، بل هو صمام أمان استراتيجي يمنع عودة التسلط، ويفكك الاحتكار، ويجعل الدولة امتدادًا للمجتمع لا سجنًا له.
وفي سوريا الجديدة، لن يكون هناك “معارضة” في الخارج و”سلطة” في الداخل، بل مجال سياسي مفتوح، تعددي، منظم، مشروط بالقانون، ومؤسَّس على الإرادة الشعبية لا التسلّط الرمزي.