web analytics
القسم السادس – الباب الثاني

الفصل الثاني عشر هندسة منظومة التنمية البشرية

وإعادة بناء الإنسان السوري – من الانكسار إلى السيادة

تمهيد عام

لا يُبنى وطنٌ إلا ببناء الإنسان.

ولا تُؤسَّس نهضةٌ حقيقية إلا حين يتحرر الإنسان من قهره، وفقره، وجهله، وخوفه، ويستعيد ثقته بذاته، وبمجتمعه، وبقدرته على صناعة مستقبله.

في سوريا، لم تكن الأزمة مجرد انهيار سياسي أو اقتصادي، بل كانت قبل كل شيء أزمة إنسان:

إنسان سحقه الاستبداد تحت أحذية الأجهزة الأمنية،

وأفرغه الفقر من قدرته على الحلم،

وخنقه الجهل في سجون الأمية والتلقين،

وأرهقته الحروب والنكبات حتى غدا هشًا، قلقًا، فاقد الإيمان بالمعنى والمستقبل.

لهذا، فإن هندسة منظومة التنمية البشرية ليست بندًا تكميليًا في مشروع النهضة، بل هي الركن الجوهري الذي يتوقف عليه نجاح المشروع بأكمله.

فكما أن تحرر الأوطان يبدأ من تحرر الإنسان، فإن إعادة بناء الدولة تبدأ بإعادة بناء الفرد: وعيه، صحته، معرفته، مهاراته، انتماءه، وإرادته.

أولًا: تشخيص الحالة السورية الراهنة

قبل أن نرسم معالم التنمية البشرية المطلوبة، لا بد أن نفكك الواقع الإنساني الذي خلفته عقود الاستبداد والخراب:

1.الفقر البنيوي العميق

نسبة الفقر المدقع تتجاوز 85% من السكان في معظم الدراسات الموثوقة.

انهيار منظومات الحماية الاجتماعية والصحية والتعليمية أدى إلى تفشي البطالة، عمالة الأطفال، والتسرب المدرسي.

الاعتماد الواسع على المساعدات الإنسانية بدلاً من تنمية القدرات الذاتية.

2. الأمية المعرفية والمهارية

ارتفاع معدلات الأمية الوظيفية (عدم القدرة على التعامل مع متطلبات الحياة الحديثة رغم القدرة على القراءة والكتابة).

تدني مستويات التعليم النوعي، وانهيار البنية التحتية للبحث العلمي والابتكار.

غياب التعليم المهني الحديث المواكب لاحتياجات الاقتصاد المعاصر.

3. الأزمة النفسية والاجتماعية

انتشار واسع لاضطرابات ما بعد الصدمة، والاكتئاب، والقلق، خصوصًا بين الأطفال والشباب.

تفكك الروابط الاجتماعية بفعل الحروب والتهجير والنزاعات الطائفية.

فقدان الثقة بالذات وبالآخرين، وشيوع عقلية الضحية والعجز.

4. فقدان الحافز والفاعلية

الإحباط العام واليأس من جدوى أي محاولة للإصلاح أو التغيير.

شيوع ثقافة الاتكالية أو الهجرة أو الانكفاء الفردي.

غياب النماذج الإيجابية الملهمة القادرة على تحريك الوعي الجمعي.

ثانيًا: فلسفة التنمية البشرية في مشروع النهضة

تقوم فلسفة التنمية البشرية ضمن مشروع النهضة السورية على مرتكزين أساسيين:

الإنسان هو الغاية والوسيلة:
لا قيمة لأي مشروع اقتصادي أو سياسي أو عسكري إذا لم يكن هدفه الأول تحرير الإنسان وتنميته وتمكينه.

التنمية الشاملة لا الجزئية:

أي أن التنمية يجب أن تشمل كل أبعاد الإنسان: الاقتصادية (الدخل والفرص)، المعرفية (التعليم والثقافة)، النفسية (الصحة النفسية والانتماء)، الاجتماعية (الاندماج والمشاركة)، السياسية (التمكين والحقوق)، والأخلاقية (الوعي بالمسؤولية والمعنى).

ثالثًا: معايير منظومة التنمية البشرية الجديدة

لضمان فعالية واستدامة هذه المنظومة، يجب أن تستند إلى المعايير التالية:

1. شمولية الأبعاد

التنمية لا تعني فقط محاربة الفقر المادي، بل تشمل محاربة الجهل والمرض والتمييز والخذلان النفسي.

2. التركيز على التمكين لا الإعالة

دعم الإنسان ليكون فاعلًا منتجًا، لا مجرد متلقي للمساعدات.

بناء القدرات والمهارات القابلة للاستخدام والإنتاج في بيئات حقيقية.

3. العدالة وعدم التمييز

ضمان استفادة كل المواطنين من برامج التنمية بغض النظر عن العرق أو الدين أو المنطقة أو الخلفية السياسية.

التركيز على الفئات الأكثر هشاشة: الأطفال، النساء، ذوي الإعاقة، ضحايا الحرب والتهجير.

4. الاستدامة والتراكم

تجنب الحلول المؤقتة أو العشوائية.

بناء آليات مؤسسية قادرة على التطور الذاتي المستمر.

5. التوطين الثقافي

عدم استيراد نماذج تنموية غريبة عن المجتمع السوري.

احترام الخصوصيات الثقافية والاجتماعية مع دفعها نحو التحديث الواعي.

رابعًا: المكونات الأساسية لمنظومة التنمية البشرية

1. التعليم الشامل النوعي

إصلاح كامل لمناهج التعليم لتقوم على التفكير النقدي والإبداعي والمهارات الحياتية.

ربط التعليم بسوق العمل الحقيقي والمستقبلي.

دعم التعليم المهني والفني والابتكار التقني.

2. الصحة الجسدية والنفسية

بناء شبكة وطنية للخدمات الصحية القاعدية والنفسية.

التركيز على الصحة النفسية كأولوية وطنية.

ربط الصحة بالتغذية والتعليم والبيئة النظيفة.

3. بناء القدرات الاقتصادية

برامج تدريب وتأهيل مهني موجهة للشباب والعاطلين عن العمل.

دعم ريادة الأعمال الصغيرة والمتوسطة.

تعزيز الشمول المالي والوصول إلى أدوات التمويل الصغير.

4. التمكين الاجتماعي والسياسي

نشر ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة الفاعلة.

دعم مشاركة المرأة والشباب في مواقع القرار المجتمعي والسياسي.

إنشاء منصات للحوار المجتمعي وتمكين المجتمع المدني المستقل.

5. استنهاض الثقافة والمعنى

ربط التنمية بالوعي الثقافي والأخلاقي والمعرفي.

بناء نماذج رمزية حية (مفكرون، فنانون، رياديون) تمثل نجاح الإنسان السوري الجديد.

خامسًا: خارطة الطريق العملية

المرحلة الأولى (1–3 سنوات): الاستجابة الإسعافية

برامج دعم نقدي مشروط للتعليم والعمل.

إعادة تأهيل المدارس والمراكز الصحية.

دعم الصحة النفسية الطارئة.

المرحلة الثانية (4–7 سنوات): البناء المؤسسي

إصلاح النظام التعليمي والصحي الشامل.

تأسيس منظومة تدريب مهني حديثة ومواكبة.

دعم المشاريع الاقتصادية المحلية.

المرحلة الثالثة (8–15 سنة): الاستدامة والنمو

تحقيق التعليم للجميع بنسبة تفوق 95%.

تخفيض نسب الفقر والبطالة دون 20%.

ترسيخ ثقافة الإنتاج والابتكار والمواطنة الإيجابية.

سادسًا: نتائج منتظرة

إنسان سوري جديد: متعلم، حر، منتج، مبدع، مشارك، واثق.

مجتمع متماسك قادر على تجاوز الجراح والصراعات.

اقتصاد وطني نابض بالطاقة البشرية الحية.

دولة قوية لأن أفرادها أقوياء بحقوقهم ووعيهم وقدراتهم.