web analytics
القسم السابع – الباب الثاني

الفصل الثاني عشر  الرقابة والمحاسبة

من الطاعة إلى المساءلة المؤسسية

 مقدمة – من ثقافة الطاعة إلى ثقافة المساءلة

في الدولة التسلطية،
الرقابة تعني الإذعان،
والمحاسبة تعني العقوبة السياسية،
والمواطن لا يراقب… بل يُراقَب.

أما في الدولة النهضوية،
فلا بناء بلا مساءلة،
ولا إدارة بلا شفافية،
ولا مسؤولية بلا رقابة مؤسسية محكمة.

الرقابة ليست خصومة مع السلطة،
بل حماية لها من الانحراف،
والمحاسبة ليست سيفًا يُشهر في وجه المعارضين،
بل ميزان يُحمل فوق الجميع.

ولهذا، لا يُمكن لأي مشروع نهضة أن يكتمل
إذا لم يُحوّل الرقابة من أداة قمع… إلى آلية توازن،
والمحاسبة من تصفية سياسية… إلى ثقافة مؤسساتية.

أولاً:  تشريح منظومة الرقابة في الدولة السورية السابقة

لفهم حجم التحدي، لا بد من تشخيص الواقع القديم:

-غياب الفصل بين الجهات التنفيذية والرقابية، مما جعل الرقابة شكلية وتابعة.

-الرقابة كانت سياسية أكثر منها إدارية أو مالية، تُمارَس على النوايا لا على النتائج.

-أجهزة الرقابة خاضعة للأمن، لا للمعايير المؤسسية.

-المحاسبة الانتقائية كانت تُستخدم ضد الخصوم وتُعطّل ضد الفاسدين النافذين.

-المواطن مغيّب تمامًا عن الرقابة، بل يُلاحَق إن تكلم.

-الإعلام محظور من الوصول للمعلومة أو كشف الفساد، إلا إذا أُذِن له بذلك لخدمة غرض سياسي.

ثانياً: الرؤية النهضوية: الرقابة بوصفها وظيفة سيادية

نقترح في مشروع النهضة نقل الرقابة من الهامش إلى المركز،
ومن التبعية إلى الاستقلال،
ومن الاستثناء إلى النظام العام.

نؤسس لمنظومة رقابة ومحاسبة تستند إلى المبادئ التالية:

استقلالية الجهات الرقابية عن السلطة التنفيذية.

دسترة مبدأ الرقابة المتبادلة بين السلطات.

فصل وظيفة التحقيق عن التنفيذ والسياسة.

إشراك المجتمع المدني والإعلام في الرقابة العامة.

إلزام الجهات الحكومية بتقديم تقارير دورية علنية.

تجريم الإخفاء المقصود للبيانات أو عرقلة أعمال الرقابة.

ثالثاً: المؤسسات المقترحة ضمن منظومة الرقابة والمحاسبة

ضمن الهيكل المقترح للدولة الجديدة، تتشكل منظومة رقابة متكاملة تضم:

الهيئة العليا للرقابة والمحاسبة: جهة دستورية مستقلة، تراقب أداء جميع مؤسسات الدولة، وتقدم تقارير دورية لمجلس السيادة والبرلمان والمجتمع.

ديوان المحاسبة الوطني: يراقب الإنفاق العام، ويصدر تقارير مالية مُلزِمة، ويحق له وقف أو تعليق أي صرف مشبوه.

مفوضية الشفافية والنزاهة: تختص بالتحقيق في قضايا الفساد، وتُحيل المخالفين إلى القضاء دون تدخل من أي جهة سياسية.

وحدة تقييم الأداء الحكومي: جهة فنية مستقلة، تُقيّم الإنجاز وفق مؤشرات موضوعية.

الرقابة المجتمعية–المدنية: تُشرعَن مشاركة الإعلام، والنقابات، والمجتمع المدني في مراقبة الأداء العام.

رابعاً:  آليات المساءلة: من السلطة إلى الوظيفة

نقترح ضبط العلاقة بين المسؤولية والمحاسبة عبر المسارات الآتية:

  • مساءلة سياسية: من البرلمان، عبر جلسات استجواب دورية لكل وزير ومسؤول حكومي.
  • مساءلة قانونية: أمام القضاء، لكل من تثبت عليه تهمة فساد أو تجاوز.
  • مساءلة إدارية: من الجهات الرقابية الداخلية في كل مؤسسة.
  • مساءلة إعلامية ومجتمعية: عبر الإعلام المهني والمنصات العامة لمراقبة السياسات والقرارات.
  • مساءلة دورية للوظائف العليا: من خلال عقود تتضمن بنودًا تقيم الأداء وتسمح بالعزل أو التمديد وفق الإنجاز.

خامساً: حماية المنظومة من التسييس والتآكل

لضمان عدم تحوّل الرقابة إلى أداة في يد فئة، لا بد من:

  • تحصين استقلال الجهات الرقابية دستوريًا وبآليات تعيين واضحة وشفافة.
  • منع ازدواجية المهام بين الجهات الرقابية والتنفيذية.
  • ضمان حماية المبلّغين والشهود والمحققين من الانتقام أو التشهير.
  • تجريم استخدام أدوات الرقابة لأهداف انتقائية أو ابتزازية.
  • تدقيق دوري لمنظومة الرقابة نفسها من قبل جهات خارجية مستقلة.

خاتمة الفصل

في الدولة الجديدة،
لن تكون الرقابة سيفًا فوق الضعفاء،
ولا ملاذًا لفاسدين ضد خصومهم،
بل ستكون فضاءً مؤسسيًا شفافًا،
يُعيد للدولة توازنها،
وللمجتمع ثقته،
وللمواطن إحساسه بالشراكة في الحُكم.

المحاسبة ليست تهديدًا… بل حماية.
والرقابة ليست تشكيكًا… بل ضمان.
ومن هنا تبدأ الدولة في التحول من منظومة طاعة…
إلى بنية يحكمها الناس، ويراقبها الناس، وتُحاسب باسمهم ولأجلهم.